قد يستغرب البعض هذا التوصيف، فالشهداء عادةً يولدون بتواضع، ويرحلون بتواضع، وتُباركهم السماء كما تتنعم الأرض بجهادهم.
لكن حين أقول إمبراطور الإعلام، لا أصف رتبةً ولا منصبًا، بل أستدعي معنى مركّبًا من القوة، الهيمنة، والرمزية التاريخية.
فالإمبراطور ليس من يحكم الناس بالسيف، بل من يؤسس في الوعي حضارة، وفي الوجدان قوة لا تزول.
كان الشهيد الحاج محمد عفيف كذلك: رجلًا بنى مجده بالمحبّة والاحترام، فصار رمزًا لا يُقاس بالسنوات بل بالأثر، وسيمفونية من البطولات التي لا تعرف أن تموت. قوّته لم تكن في السلطة، بل في تلك الهالة الهادئة التي تصنعها الهيبة الممزوجة بالتواضع، والصلابة المضمّخة باللين.
لقد تجاوز محمد عفيف حدود الطائفة والمذهب، وصعد بفكره وإتقانه وانضباطه الأخلاقي إلى مصافّ الرموز الوطنية الكبرى. كان خطابه جسرًا بين التديّن والحداثة، بين الوقار والنبالة، يختار كلماته كما يختار الشاعر من السماء اجمل الكلمات والمجاهد موقعه في الميدان، يزن الزمن بالدقيقة، والمعنى بالحرف، والنية بالصدق.
أسّس منظومة إعلامية مترامية الأطراف، لا تقوم على الضجيج بل على قدرته بالتعامل مع كل شخص كما هو، على الفكرة لا على الصدفة، حتى صارت العلاقات الإعلامية في زمنه أشبه بخلية نحل تجني شهد العسل من الازهار النادرة، لتكون ذخيرة المقاومة في زمن القحط.
امتدّ نفوذه الأخلاقي من خلال صدقه وشفافيته وقربه من السيد نصرالله، ليغدو جزءًا من الثقافة السياسية والإعلامية اللبنانية والعالمية.
وفي اللاوعي الجمعي، “الإمبراطور” هو من يُقاس الزمن به: قبله وبعده. وهكذا صار محمد عفيف مقياسًا للإعلام المقاوم، كأن صوته هو الإيقاع الداخلي للمواجهة، وكأن حضوره هو المعيار بين الحق الباطل.
وربما من أقدَر المفارقات في مسيرة حزب الله، أنّ عظمة قائده الشهيد السيد نصرالله حجبت كثيرين من رجاله، إلا أن محمد عفيف كان الاستثناء. فقد لازم النخب والمثقفين والكتّاب، تعامل معهم بميزان من ذهب، بحسٍّ من القداسة والاحترام، فترك في قلوبهم وعقولهم أثرًا لا يُمحى.
ولذلك، حين رحل، بدا وكأن الحزن تسلّل إلى اللغة نفسها، وكأن الأقلام كتبت بدم القلب لا بالحبر.
خاتمة الحاج محمد عفيف أصلب من أن يكسرها الزمن، وأوضح من أن يمحوها التاريخ، وأعظم من أن يبتلعها الحاقد أو يختصرها محبّ. فشهادته لم تكن فقط في ملكوت السماء، بل أيضًا في واقع الحياة، حيث كتب بفكره ودمه ملحمة كالإلياذة الخالدة، يوم خرج خاليًا من السلاح، عاريًا من الأحقاد، يواجه آلة القتل بثبات من آمن أنه صار أكبر من الموت نفسه.
أيُّ عقل لا يحترمه؟ وأيُّ روح لا تنحني أمام أناقته الهادئة، وتواضعه المهيب؟
لقد ذبل محمد عفيف كما تذبل الوردة حين تُنتزع من تربتها. بعد استشهاد السيد نصرالله، تغيّر وجهه، أرخى لحيته، وصار كمن حمل الفقد في صدره وقلبه حتى فاضت روحه.
سيكتب التاريخ عن هذا النابغة الإعلامي الذي حوّل مكتب العلاقات الإعلامية – ذاك الفاكس البسيط – إلى إمبراطورية وعي وتأثير تمتدّ من بيروت إلى أقاصي العالم، نافذة تقول للعالم: هنا صوت المقاومة، هنا الكلمة التي توازي الصراع، من هنا تولد الفكرة لتتحول الى فعل لا يقل اهمية في صناعة الوجود من الوجود نفسه.
بعده، خفت الصوت، وغابت اللمسة، ولم يعد أحد ينتظر كوب الشاي ذاك الذي كان يفتح أبواب النصر، ولا تلك الكلمة التي كانت تمنح الحبر شرف المعركة.
سيبقى محمد عفيف القصة التي لا يجف حبرها، والرواية التي لا تنتهي فصولها.
ارقد بسلام أيها الصديق البطل… أيها الإمبراطور الذي بنى عرشه على الصدق بين مختلف الطوائف اللبنانية، وترك في قلوبنا من المحبة والاحترام له بان نبكيه دما عند كل صورة تمر له او طيفا من حضوره الذي لا يغيب.
https://telegram.me/buratha

