ترددتُ كثيرًا قبل أن أكتب، كأنني أخوض معركة طهارة وقدسية داخل اللغة، أبحث عن مفردة لا تخون الشعور، ولا تتبرّج أمام من يستحق الصدق لا الزينة.
حاولتُ أن أُعيد تركيب الجمل مرات، أهرب من الجُرح، والملح يلاحقني…
فهذه كلمة حق، وصرخة اعتراف، ووقفة أمام الحقيقة الصادقة، التي هربنا منها حين عجزنا تشبيه صورتك فيها.
نحن لا نتغيّر.
نمضي، وقلوبنا محشوّة بأخبار الأمس: ثأر، حقد، كراهية، وفتنة.
والعالم يتغيّر:
الشمس تدور، الأرض تتنفس، والإنسان ينهض.
إلا العرب…
نحن كما نحن، نمارس الانقراض ببطء، وننقّب عن المجد في كتب التاريخ ونشرات الغبار.
نقتل بعضنا لبعض.
نُزايد بالتبعية، ثم نمدّ الموائد لمن يتجبر علينا..
لم يبقى امام العرب الا ان يقولوا لإسرائيل: أهلًا وسهلًا، خذي أرضنا دمري بيوتنا مزقي مستقبلنا، وانهشي من لحم أطفالنا، وسامحينا إن أزعجناك بأصوات الأموات..
كل ذلك، ونحن نتغنّى بالوحدة!
غزة تُسحق، وسوريا تقسم، ونحن نحصي الموتى والجرحى.
نفتح أفواهنا كما تُفتح القبور، ونلوك الخوف كمن يلوك جثة وطن.
أصبحنا خبرًا عاجلًا في شريط الهوان، نحترف الصمت، ونمارس الشجب كطَقسٍ مقدّس.
كلنا نبدأ من الصواب، ثم نتوه في الرأي، وندّعي أننا فلاسفة، أنبياء، وأوصياء على هذا الخراب.
نرقص على الأنقاض، نصفّق للموت، نكتب الشعر كمن يرثي نفسه،
لكننا لم نسجّل يومًا سعيدًا يُذكَر فوق شواهد قبورنا.
لماذا؟
لأننا أخطأنا.
نعم، سماحة السيد حسن نصر الله، جميعنا أخطأنا:
الكتّاب الذين لم يكتبوا عنك لأنك لا تُكتب،
الفنّانون الذين لم يرسموك، لأنك لا تُرسم،
والشعوب التي رأت فيك عزم قوتها، فخافت من قوتها.
المثقفون الذين صمتوا عنك، لأن فلسفتك ليست من كتبهم، بل من فلسفة الوجود، من عز كربلاء، من صرخة: “هيهات منا الذلة”… من يجرؤ أن يشرح فلسفة تُقال في لحظة موتٍ على شفاه الخلود؟
والمناضلون المقاومون الذين ذابوا فيك عشقًا، فماتوا دون أن يبوحوا، ويُقال عنهم عشّاق، بل مشتاقون الى تبسمك، فقط تلك الابتسامة تكفي, والخاتم بحركة الكف يكفي.
كان يجب ان نعترف أنك الحكاية والبداية والنهاية،
ولا يحق لي أن أعتذر باسم الجميع،
ولا حتى باسم الحروف التي تتهيّب ذكرك،
ولا من تلك العمامة التي تجسد تضحيات الحسين وعدالة علي ورحمة محمد، ومحبة عيسى، واستغفار يونس، وعصا موسى، وصبر أيوب، وجمال يوسف ودمعة يعقوب، وفداء إسماعيل وصداقة إبراهيم مع الله.
سيأتي يوم — وربما لا — سيعتذر فيه الجميع،
مع أنك لا تنتظر، ولا تطلب، ولا تعاتب.
صبرت،
وجاهدت،
وقاومت،
وسهرت على عيون المستضعفين، تبكي لله لأجلنا، بينما نحن نبكي على مصالحنا.
كتبت لك الآن يا سيدي،
لعل كلماتي تسافر إليك،
تحملها ملائكة السماء إكرامًا لك، لا لأنك تحتاجها، بل لأننا نحن من نحتاج أن نكتبها.
لعل أحدهم يقرأها، فتعود علينا بالمطر والسلام والامان.
ما أصعب فقدك…
سكن الحزن قلوبنا، وقتلنا الزمن إلى وجودك، حتى السمع بدأ يبحث عن بعض ترانيم صوتك.
لم نعد نشاهد الحقيقة، فقد كانت أنت.
سيدي يا نصر الله،
أكتب عنك، لا كمن يكتب عن بطل، بل كمن يكتب عن أسطورة تعرف أنها لم تُخلق لتُصدّق.
أكتب عن شهيدٍ قال يوم ودّع ابنه الشهيد في يوم الشهيد:
“أشكر الله أن تطلع إلى عائلتي واختار منها شهيداً، فقبلني في جمع عوائل الشهداء…”
من قال هذا لا يُرثى له، بل يُحجّ إليه.
أيها السيد،
لقد قلبت المعادلة.
جعلتنا نعيد تعريف الانتصار.
أنت لم تأخذ تحرير الجنوب بالمفاوضات، بل انتزعته بالدم.
لم تُساوم، بل صمّمت خارطة الوطن على جغرافيا الشهداء.
يا سيدي،
قتلوك لأنهم يريدون قتلنا،
ولو قُتلنا جميعًا، وما قتلوك، لكنا ما زلنا أحياء.
لقد حرّرت وطنًا قبل أن تتكالب عليك الأمم.
رسمته بدموع الأمهات،
وزيّنته بتكبيرات الآباء،
وجعلت علمه يرفرف على القمم، لا على موائد التسويات.
كنا نعتقد أن الحرية والسيادة هِبة،
فجئتنا تُعلّمنا أنها تؤخذ عنوة.
أنت، يا سيدي، لا تشبه الا نفسك.
في عالمٍ يعشق التكرار، أنت المفاجأة.
في وطنٍ يزيف البطولة، أنت الحقيقة.
في زمنٍ يخاف من العزّة، أنت العزّة التي لا تخاف.
وفي النهاية،
كلماتي أضعها بين يديك لا لتقرأها، بل لتصفح عنها.
لأن ما قدمته أكبر من كل النصوص،
وأعظم من كل الألقاب.
وكل ما نكتبه، يا سيد شهداء الامة،
يبقى دون مستواك.
سلام عليك طالما الجنوب محتل،
وسلام عليك طالما إسرائيل تنتهك السيادة،
وسلامٌ عليك ما دامت الحرية تُعتقل،
وسلامٌ عليك ما دامت الكرامات تُذل،
وسلامٌ عليك ما دامت غزة تُقصف،
وسلام عليك طالما الأقليات تُظلم في عالمنا العربي،
وسلام عليك طالما الإسرائيلي هو من يحكم،
وسلام عليك طالما الشرق ينبطح.
كل من عاش بعدك يقرؤك السلام،
وسلام عليك، وألف سلام، لأننا فهمنا — متأخرين — أنه لا سلام بعدك.
نعم، جميعنا أخطأنا،
نعدك ان نتحرر من القيود ونحرر الحدود ونعود احياء شهود، تقرئنا السلام.
https://telegram.me/buratha
