الصفحة الإسلامية

النبوة والوعي المطلق: بين الرحمة والعدل

116 2025-08-23

بقلم نهاد الزركاني

لم تكن نبوة محمد (ص وله ) مجرد رسالة خارجية أو منصب تاريخي، بل كانت تجليًا إنسانيًا للوعي المطلق. لقد كان المرآة الصافية التي انعكس عليها النور الإلهي في أوضح صورة، حتى غدت أقواله وأفعاله نصوصًا وجودية تتجاوز الزمان والمكان، تقرأ على مستويات متعددة: شريعة تنظم حياة الناس، وحقيقة تفتح أبواب الروح على المطلق.

 

فوصيته (ص وله) بالرفق بالذبيحة مثلًا تحمل في ظاهرها حكمًا تشريعيًا مباشرًا، لكنها في باطنها تذكير بأن القسوة على أي كائن حي انعكاس لانقطاع عن المنبع الرحيم، وأن الرحمة هي سر الوجود وأساس العلاقة مع كل ما حولنا.

 

قلبه الشريف لم يكن مجرد عضو جسدي، بل مركز استقبال وتفريغ كوني؛ هوائيٌّ يتلقى الوحي بلا تشويش، ثم يترجمه إلى لغة بشرية قريبة، قرآنًا يتلى وسلوكًا يُحتذى. وهنا يتضح أن النبوة ليست مجرد تلقي، بل تحويل للطاقة الإلهية إلى وجود إنساني يمكن أن يعيش الناس في ظله.

 

الرحمة عنده (ص وله ) لم تكن عاطفة طارئة، بل نظامًا أخلاقيًا كونيًا. تبدأ من الذات، ثم تتسع إلى الأسرة والمجتمع، حتى تشمل الحيوان والجماد والكون بأسره. ولم تكن الرحمة ضعفًا، بل أعظم قوة غيّرت مسار التاريخ. يوم فتح مكة، حين قال لمن آذوه: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، جسّد أن الرحمة قادرة على الانتصار على الغضب والانتقام، وأنها السبيل الأسمى لصياغة قوة جديدة أكثر رسوخًا من السيف.

 

أما عدله (ص وله )، فلم يكن مساواة شكلية جامدة، بل إحقاقًا للتوازن الكوني الذي يختل بالظلم. كان نورًا يبدد ظلمات الهوى، حتى أن الخصوم كانوا يلجؤون إليه ثقةً بحكمه وإنصافه. وقد وعد (ص وله) أهل العدل بمقام روحي سامٍ عند الله، فقال: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل… الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلّوا ) هكذا يظهر العدل لا كإجراء دنيوي فحسب، بل كجسر إلى النور الإلهي، وشرطٍ لانبثاق الانسجام في الكون والإنسان معًا.

 

في هذا كلّه يتجلى النبي (ص وله) بوصفه الإنسان الكامل؛ الكائن الذي تجلت فيه الأسماء الإلهية بأكمل صورها، فصار قطبًا جامعًا للرحمة والعدل والمعرفة. لم يكن وجوده مثالًا متعالياً بعيدًا عن البشر، بل نموذجًا عمليًا يدعو كل إنسان لأن يجعل من ذاته مرآةً تعكس شيئًا من ذلك النور.

 

إن قراءة سيرته ليست ترفًا فكريًا ولا حنينًا تاريخيًا، بل دعوة إلى المشاركة الوجودية: أن يتحول القلب إلى مستقبل لذبذبات الرحمة، وأن نصوغ حياتنا اليومية على إيقاع العدل، وأن نجعل من تفاصيلنا الصغيرة سننًا واعية متصلة بالمطلق. فالنبي (ص وله ) ليس بحرًا يُستنزف، بل محيط لا ساحل له، كلما غصنا فيه اكتشفنا أعماقًا جديدة تغيّرنا نحن، لا هو.

 

إنه الحضور الدائم الذي ينادي: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) [آل عمران: 31].

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك