رعد الليثي
04/05/2025
دون شك، أنَّ العدالة ومبادئ سيادة القانون تُعدُّ إحدى الدعائم والركائز الاساسية لإقامة واستقامة أي مجتمع سليم وآمن؛ فبغياب العدالة، تنسلخ ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة، وتُشرَّعُ الابواب قُبالةَ الفوضى، وتمزقُ أردية الحق فتتفاقم مشاعر الظلم والاحتقان لدى الناس. ومؤكد أنه حيال هذا يزداد الإصرار بحتمية تحكيم مبادئ العدالة، وضرورة تطبيق بنودها، لاسيما ما يرتبط منها بقصاص مرتكبي الجرائم الخطيرة، كالجرائم والمجازر الإرهابية التي طالت أرواح الأبرياء وانتهكت أمن المجتمع وزعزعت استقراره في الماضي القريب وخلفت وراءها شرائح واسعة من الضحايا وذويهم المثكولين.
إن إنفاذ الأحكام القضائية التامة بحق مرتكبي الجرائم الإرهابية والمتورطين بها، تمثل مسؤوليةً أخلاقيةً وقانونية تقع على عاتق الدولة وأجهزتها القضائية، وهي الضمانة الوحيدة لحماية المجتمع من تكرار تلك المجازر وتجنيب الشعب ويلاتها ومآسيها، كما هي الضمانة لتحقيق العدالة للضحايا وإنصاف ذويهم.
مؤخراً، أثير لغطٌ شعبيٌ ونخبويٌ واسعٌ حيال إطلاق سراح المجرم (احمد العلواني) من السجن، بذريعة شموله بـ(قانون العفو العام)، او بذريعة دفع عشيرته دية الذين قتلهم هذا المجرم، بعد أن كانت محكمة الجنايات المركزية العراقية قد أصدرت بحقه عام 2014 حكماً بالإعدام بعد إدانته بتهمة القتل العمد لجنديين عراقيين، ناهيك عن الجرائم الاخرى المتمثلة بقيادته التأجيج الدموي ضد الجيش والشرطة والحكومة آنذاك. ورغم ان القرار القضائي يقضي بالاعدام، غير أن هذا الحكم لم ينفذ، حيث عملت ضغوط ساسة وكتل وعشائر سنية الى عدم تنفيذ حكم الاعدام، ومن ثم تخفيفه الى المؤبد، وهكذا حتى تم اخراجه تحت يافطة (قانون العفو العام) تارة، وتحت يافطة دفع دية من قتلهم تارة اخرى.
ومؤكد ان كلَّ ذلك اثار كبير سخطٍ ونقمة في اوساط الشعب العراقي، خصوصاً في اوساط ذوي ضحايا الجرائم والمجازر الارهابية وبينهم ذوو ضحايا جريمة الإرهابي العلواني السالفة الذكر.
وفي خضم عمليات (إعادة تفسيرٍ) لسير إنفاذ الاحكام القضائية -اذا صح التعبير- كما جرى مع العلواني، فإن أي إجراءٍ يسفر عن إطلاق سراح مدانين بجرائم إرهابية عبر وساطاتٍ أو صفقاتٍ سياسيةٍ او تحت جُبِّة قوانين بعينها، يثير أسئلة جوهرية حول مدى احترام الدولة لمبادئ العدالة، وحول العواقب المحتملة لهذا التجاوز الخطير.
وبتحليلٍ يسيرٍ لقضيةٍ حساسةٍ كهذه ودون أيَّةِ توصيفاتٍ حادة، وإستناداً للمبادئ القانونية والحقوقية العامة وحسب، ومن واقع الحاجة لصون الامن وحفظه، وإشاعة الاستقرار على أسس عادلة ومتوازنة، تبرز قضية إطلاق سراح المجرم (احمد العلواني) كتقويضٍ واضحٍ لمبدأ العدالةِ وخرقٍ فاضح لسيادة القانون وغمطٍ سافرٍ لحقوق ذوي ضحاياه.
فلاريبَ أنَّ إطلاق سراح مجرمٍ مدانٍ قضائياً بجرائم إرهابية عبر وساطاتٍ سياسية تحت جبة (قانون العفو) او سواه يُعدّ انتقاصاً فاضحاً ومباشرًا لمبدأ المساواة أمام القانون. فهذا الإجراء يكشفُ حجومَ التدخل والنفوذ السياسي وإمكاناته في خرق وتجاوز أحكام القضاء الباتّةِ والمستأنفة، الامرُ الذي يقوّض مفهومَ الثقة بمؤسسات العدالة ويُضعف بالتالي من هيبة الدولة.
فعندما تُتخذ قراراتٌ من هذا النوع وتُكسى عُنوةً بكسوةٍ ظاهرها (قانوني) وباطنها (سياسي)، فالأمر برمته يخرجُ من إطار النزاهة القضائية، بل ويَبعث برسائل غاية في السلبية إلى شرائح المجتمع، مفادها أن العدالة باتت تلبس ثوب الإنتقائية، فهي تحابي بعضاً، وتقيم الحد على البعض الاخر، فضلا عن أن سطوة الانتماءات والولاءات باتت تفوق في احيان ليست بالقليلة سلطة الاحكام القضائية، فتضعفها في حين، وتلغيها في حينٍ آخر، وإن كانت أحكاماً قضائيةً باتةً نافذةً، ومهما علت رتبة جرمها في تصانيف خطورة الجرائم المرتكبة.
إنَّ سيادة القانون، تحكم وتقتضي خضوع الجميع – دون تمييز – لأحكام القضاء، وأن تطبيق مقتضى العقوبات يسري إستناداً على أساس الجرم المرتكب، فلا يخفف من حدته انتماءٌ سياسي، ولا ظرفٌ مصلحي، ولا تبرير تصالحي. كما وأن أي خرق لهذه القاعدة سيكون مدعاةً لإضعاف كل البنية المؤسسية، وفي مقدمتها المؤسسة القضائية وسمعتها، ويزيد من هشاشة العلاقة المهزوزة بين الدولة ومواطنيها، وبالتالي تعاظم حجم التهديدات التي قد تطال السلم الأهلي وان كان على المدى البعيد.
والى جانب كل ذلك، فإن أيّة جريمة أو مجزرة إرهابية إرتكبت ضد أبناء الشعب العراقي، فلا مناص أن هناك ضحايا سقطوا دون ذنب، وعائلات غدت تعيش مرارة الفقد والحرمان وتجر آهات الحزن على ذويهم الذين غيبهم الإرهاب، ناهيك عن حجوم المعاناة المعيشية اليومية جراء فقدان المعيل وفي هذا الامر حَدِّث ولا حرج، وبإزاء كل هذا فإنَّ إطلاق سراح مَن ارتكبَ مجازر او جرائم إرهابية سيمثّل عظيمَ إهانةٍ، وصريح إستصغارٍ وتجاهلٍ من ذوي الضحايا، بل وذكرى الضحايا انفسهم، إذ سيُعَدُّ إستخفافًا مشيناً بمشاعر هؤلاء الذين ما زالوا يطالبون بإمضاء العدالة وإنصافهم وإنصاف ذكرى ذويهم الراحلين.
من هنا فإنّ تجاوز آلام الضحايا وتسفيه آلام ذويهم الاحياء تحت ذريعة تمرير المصالح السياسية، سيبعث برسائل مشينة مِنْ أن الحكومة والمتصدين للحكم وذوو الحل والعقد يرون أن دماء الأبرياء يمكن أن تكون محلاً للمساومات السياسية، وعربةً لتسويق المطالب الحزبية، وسلةً لإحتواء الصفقات الكتلية وربما المذهبية، وهذا بمجمله هو انتهاك صارخ لأساسيات الدستور الصائنة لحقوق المواطن بل لمجمل حقوق الإنسان، وتمييعٌ مكشوف لمبدأ "عدم الإفلات من العقاب"، الذي يشكل بحد ذاته دعامة رئيسة من أركان القانون العراقي بل القانون الدولي.
ومن البديهي، أن سريان العدالة لا يكتمل إلا حين يُنتصفُ لضحايا الجرائم وبضمنها الجرائم الإرهابية، ليس في إطار التعويض المادي فحسب، بل بإمضاء وتنفيذ الاحكام العادلة الصادرة بحق المجرمين، وأن إيَّ تغافلٍ عن هذا البعد الإنساني من شأنه أن يشيع في أوساط ذوي الضحايا الشعور بالخذلان والمرارة، ما يؤجج مناخات الإحباط، ويعاظم من مشاعر عدم الانتماء الوطني، فضلا عن كونه يغذي مشاعر الانتقام في أوساط عديدة من ذوي الضحايا.
الامر الاخر المحمل بريح المخاطر، هو أن إطلاق سراح أشخاص سبق وأن أدينوا بجرائم إرهابية سرت الاحكام القضائية الباتّة بحقهم، لا يخلو البتة من عواقب أمنية جسيمة، فأمثال هؤلاء المجرمين والجزارين والتكفيريين مازالوا يحملون ذات الأفكار الاجرامية والارهابية والمتطرفة والتكفيرية التي كانت وراء إرتكابهم لمجازرهم وجرائمهم، ما يعني انهم مازالوا يشكّلون مؤئلاً ومثابات جاهزة يمكن إستثمارها من قبل جهات مشبوهة او اطراف مغرضة او بلدان منحازة تدعم التشدد والتطرف ولا تريد خيراً للعراق، ما يزيد من إحتمالات إعادة تجنيد هؤلاء الارهابيين والمجرمين او تنظيمهم في تشكيلات إرهابية جديدة.
ولعل التاريخ العراقي القريب، بل والعديد من التجارب الأخرى في بلدان كثر أثبتت أن بعضاً من المُفرج عنهم في قضايا الإرهاب قد عادوا لاحقًا إلى أنشطة إرهابية وإجرامية، إما بصورة مباشرة أو من خلال دعمهم او تحريضهم لمثل تلك الاعمال الإرهابية، الامر الذي يجعل من قرارات إطلاق سراحهم محفوفة بالمخاطر، ويثير العديد من التساؤلات حول مدى قدرة الدولة على مراقبة جميع تحركات هؤلاء بعد اطلاق سراحهم، الى جانب انعدام الضمانات لعدم انخراطهم مجددا في مستنقع الإرهاب.
على اية حال، ففي ظل هشاشة الأوضاع الأمنية في بعض المناطق، فإن إعطاء الأولوية للمكاسب السياسية الآنية على حساب الأمن الوطني قد يؤدي إلى نتائج كارثية، خاصة إذا ما تم تجاهل التقييمات الاستخباراتية والمخاطر الأمنية المحتملة.
ولعل الامر الأخر الذي يحمل خطورة، هو شعور المواطن العادي أن القانون لا يُطبق على الجميع بنفس المعيار، وأن بعض المجرمين تُفتح لهم أبواب الإفلات من العقاب لأسباب سياسية، ما يعاظم من مشاعر الظلم وعدم المساواة، ومؤكد ان هذا الشعور ليس مسألة نفسية فقط، بل يُترجم إلى مواقف وسلوكيات تُضعف التلاحم المجتمعي.
ففي بلد متعدد الأطياف والانتماءات كالعراق، تعتبرُ العدالة والمساواة هي أحد عوامل تعزيز الوحدة الوطنية، وأنَّ أيَّ تفريط بها، سيكون مدعاةً لتوسيع هوة الثقة بين الدولة وفئات شعبها، ما يزيد من تعميق الإحساس بالتهميش والتمييز، الذي سيكون بيئة حاضنة للنزاعات والانقسامات. وبمعنى فإن الحفاظ على السلم المجتمعي لا يمكن أن يتم عبر المساومات، بل عبر تطبيق القانون بروح من النزاهة والشفافية، وبما يحقق شعور الجميع بأنهم متساوون أمام العدالة، بغض النظر عن خلفياتهم أو ارتباطاتهم او مكانتهم الحزبية او الكتلية او المذهبية.
من هنا، ورغم الرفض الشعبي الواسع لبنود في (قانون العفو العام)، وتعاظم التحفظات عليه في الاوساط الشعبية والاكاديمية لاسيما ما يتعلق بإطلاق سراح مدانين بجرائم إرهابية ألبسُوا -عبر ضغوطٍ ورشى - الى خانة الجنائية، يمكن التفكير ببدائل قانونية وإنسانية في حالات خاصة جدًا، كأن تُطرح آليات مراجعة قانونية ضمن إطار قانوني مشروط، يخضع لرقابة قضائية مستقلة وشفافة، دون أن يقترب مطلقاً من حافة من ارتكب جرائم قتل أو شارك مباشرة في عمليات إرهابية دامية او اعان عليها.
وبذات الوقت، فيتعين على الحكومة أن تعزز من سلطة القضاء واستقلاليته، وتعمد لتوفّر الحماية الكافية للقضاة كي يصدروا أحكامهم وينفذوها دون تدخل أو ضغوط من جهة كذا وطرف كذا، وأن تُلزم نفسها بالشفافية في الإجراءات العدلية والقضائية، بما يتيح للمواطنين الاطلاع على أسباب أي قرار حكومي استثنائي وتقييمه بمقاييس الانصاف والعدل.
فضلا عن اهمية فتح حوار وطني شامل حول قضايا العدالة والمصالحة، يشارك فيه الجميع، بما في ذلك ممثلو الضحايا بغية بلورة رؤى تُحقق العدالة دون أن تُهدد الاستقرار أو تُنتج ظلماً جديداً.
وختاماً، فإن تحقيق الاستقرار والأمن الدائم لا يتأتى عبر تجاوز العدالة وانتهاك احكامها القضائية، بل عبر الالتزام الصارم بمبادئ القانون وسيادته. وبالتالي فإن السماح بإفلات من تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء من العقاب الكامل لا يهدد فقط أمن الدولة، بل ينسف الثقة الاجتماعية، ويضعف الأسس التي يُبنى عليها وطن قوي وعادل، فالعدالة ليست خيارًا سياسيًا، بل التزامٌ أخلاقيٌ ودستوريٌ لا يجوز انتهاكه بأي حالٍ من الاحوال، ولا يجوز التضحية ببعض من مبادئه لأجل مكاسب مؤقتة، قد تجر آثاراً كارثية على المدى البعيد، وتفتح الباب لدوامة من النقمة والسخط الشعبي والشعور بالخذلان، الذي سيقود لا محالة الى سلوكيات انتقامية وان طال العهد.
فمن غير المبرر ابداً، ان تُغَشَّى الجرائمُ بما يسمى بـ(المصلحة الوطنية العليا)، ومن غير الانصاف انتهاك كرامة الضحايا، التي تلزم بمحاسبة مرتكبي الجرائم مهما علت اسماؤهم او سمت مواقعهم، او نفوذية داعميهم، فبناء الدولة العادلة لا يتم بالمساومات، بل بالإرادة الصادقة، والاستقامة، والعدل الشامل.
https://telegram.me/buratha
