إبراهيم النداف
مقدمة: اتفاق الضرورة في ظل معادلات القوى الكبرى
لم يكن الاتفاق بين حكومة أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) خطوة سياسية بحتة، بقدر ما كان انعكاسًا لصراعات القوى الكبرى التي أعادت رسم المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط. فمنذ سقوط الأسد في ديسمبر 2024، باتت سوريا ساحة لإعادة توزيع النفوذ، حيث لم تكن حكومة الشرع سوى امتداد مباشر للإدارة التركية، بينما وجدت قسد نفسها عالقة بين الدعم الأمريكي الباهت و الضغوط التركية.
في هذا السياق، كان لابد من قراءة هذا الاتفاق ضمن ترتيبات إقليمية أوسع، حيث تدير إسرائيل استراتيجيتها في المنطقة بالتنسيق مع الولايات المتحدة، بينما تلتزم روسيا بالصمت منشغلة بالحرب في أوكرانيا وبتأمين نفوذها في الساحل السوري وحقول الغاز البحرية.
لكن هذا الترتيب لم يكن وليد اللحظة، بل كان نتيجة تراكمات سياسية واقتصادية وعسكرية، أعادت تشكيل التحالفات والمصالح في المنطقة ووضعت دمشق في موقع المتلقي للقرارات، وليس صانعها.
اولا- حكومة أحمد الشرع: واجهة سياسية للحكم التركي في سوريا
أ. كيف تولّت حكومة الشرع السلطة؟
بعد انهيار نظام الأسد، لم تكن هناك سلطة محلية قادرة على سد الفراغ، بل كان البديل جاهزًا في أنقرة، حيث تحركت تركيا بسرعة لإعادة تشكيل الحكم في سوريا وفقًا لمصالحها الاستراتيجية. كان المطلوب يتمثل في استبدال النظام وإقامة حكومة جديدة خاضعة بالكامل للقرار التركي، مما يضمن حصر دمشق ضمن نطاق النفوذ التركي دون أي مساحة للمناورة السياسية.
في هذا السياق، جاء تعيين أحمد الشرع رئيسًا للحكومة الجديدة، وهو شخصية برزت من قلب الفصائل الإرهابية التي تلقت دعمًا تركيًا خلال السنوات الماضية، فلم يكن وصوله للسلطة نتاج توافق سوري داخلي، بل كان نتيجة قرار تركي مباشر يهدف إلى تأمين النفوذ التركي في سوريا الجديدة.
ب. لماذا وافقت حكومة الشرع على اتفاق مع قسد؟
رغم أن تركيا ترى في قسد تهديدًا استراتيجيًا، إلا أن حكومة الشرع لم تكن تملك خيارًا سوى عقد صفقة مرحلية مع الأكراد، للأسباب التالية:
1. الحصار الاقتصادي المفروض على الحكومة الجديدة
الحدود مع الأردن ولبنان مغلقة تقريبا لأسباب أمنية، والموانئ البحرية تحت نفوذ روسي. و رغم الدعم التركي لحكومة أحمد الشرع، فالاقتصاد التركي يعاني من مشاكل، مما يجعل من الصعب الاعتماد كليًا على الاستيراد من تركيا.
ولهذا لم يتبقَ سوى المعابر العراقية، التي تسيطر عليها قسد، كممر رئيسي لإمداد سوريا الجديدة بالسلع والموارد الأساسية.
2. عدم الجاهزية العسكرية لمواجهة قسد
الجيش السوري الجديد، الذي تشكل بعد سقوط الأسد، ليس في وضع يسمح له بخوض حرب استنزاف مع الأكراد. في الحقيقة، هذا الجيش ليس كيانًا متجانسًا، بل خليط غير منظم من فصائل متعددة ذات ولاءات ومصالح متباينة، وهو ما بدا واضحًا خلال الأيام الماضية من خلال المناوشات العسكرية التي اندلعت بين بعض هذه الفصائل، والتي كشفت عن تصدعات داخلية حادة.
فبينما التحقت بعض الفصائل رسميًا بحكومة أحمد الشرع، لا تزال أخرى مترددة، وهناك من انضم لكنه يرفض الالتزام بسياسات الحكومة أو أوامرها العسكرية، سواء على المستوى الداخلي أو في تعهداتها أمام القوى الدولية والعربية.
في المقابل، فإن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تمثل قوة منظمة لها هيكل عسكري واضح، وتاريخ طويل في حرب العصابات، بالإضافة إلى خبرة قتالية اكتسبتها من سنوات القتال ضد تنظيم داعش والنظام السوري. كما أنها تتمتع بسيطرة فعلية وكاملة على المناطق الخاضعة لها، والتي تشمل محافظة الحسكة بالكامل، ومعظم محافظة دير الزور شرق الفرات، وأجزاء واسعة من محافظة الرقة، إضافة إلى مناطق في ريف حلب الشرقي والشمالي.
هذه السيطرة الميدانية، إلى جانب البنية التنظيمية والانضباط العسكري داخل قسد، تجعل أي مواجهة مباشرة بين الجيش السوري الجديد وهذه القوات مستبعدة وغير واقعية في الظروف الحالية، لا سيما في ظل انعدام التجانس داخل القوات الموالية لحكومة الشرع، وعدم وضوح الرؤية بشأن ولاء بعض الفصائل المسلحة التي لا تزال تتحرك ضمن حساباتها الخاصة.
من جانب آخر أنقرة تدرك أن فتح جبهة عسكرية جديدة مع قسد سيؤدي إلى توتر مع الولايات المتحدة، وهو ما يجب تجنبه في هذه المرحلة.
3. الضغط الأمريكي والإسرائيلي لصياغة اتفاق لا يسمح للأكراد بالتحالف مع إيران وروسيا
واشنطن ليست مستعدة للتخلي عن قسد بالكامل، فهي بحاجة إلى إبقائها ضمن معادلة توازن القوى في سوريا، دون أن تصبح عبئًا استراتيجيًا.
وكذلك إسرائيل دعمت أي حل يضمن فصل الأكراد عن المحور الإيراني بالكامل، وهو ما جعل هذا الاتفاق يخدم مصالحها أيضًا، حيث نجحت في دفع الأكراد إلى مسار لا يتعارض مع الترتيبات الإسرائيلية في سوريا والعراق.
ثانياً- قسد بين الضغوط الأمريكية والرغبة في البقاء السياسي
بالنسبة لقسد، كان سقوط الأسد نقطة تحول، لكنها لم تكن إيجابية بالكامل. فإنّ القيادة الكردية لطالما سعت إلى تحقيق الحكم الذاتي، لكن الانسحاب الأمريكي التدريجي والضغوط التركية المتزايدة، جعلا هذا الهدف أكثر صعوبة.
في هذه الظروف كان على قسد أن تتخذ قرارًا حاسمًا بشأن مستقبلها، وكانت أمام ثلاثة سيناريوهات:
1. السناريو الأول: التحالف مع الحكومة السورية الجديدة، مما يمنحها اعترافًا سياسيًا لكنه يقلص استقلاليتها العسكرية.
2. السناريو الثاني: التقارب مع إيران وروسيا كان خيارًا محفوفًا بالمخاطر، نظرًا لاحتمالية أن يؤدي إلى رد فعل عسكري قوي من تركيا، التي لن تتردد في شن حملة واسعة لإحباط أي تحالف بين قسد وهذا المحور. و تزداد هذه المخاطر بعد توقف دعم روسيا وإيران لبشار الأسد لأسباب قد تتراوح بين إعادة ترتيب أولوياتهما الإقليمية، أو ضغوط داخلية وخارجية جعلت من استمرار هذا الدعم غير مجدٍ أو مكلفًا للغاية.
هذا التغيير الجذري في موقف موسكو وطهران كان أحد العوامل التي جعلت قسد في موقف أكثر هشاشة، وغير قادرة على الوثوق بهذا المحور بشكل كامل، لا سيما في ظل الظروف الحالية التي تعيشها بين الحياة والموت سياسيًا وعسكريًا.
ففي حال قررت قسد أن تقترب كليًا من إيران وروسيا، فإن ذلك لن يجعلها في مواجهة تركيا فحسب، بل قد يحوّل جميع القوى الأخرى الفاعلة في سوريا بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل وحتى فصائل الشرع إلى أعداء مباشرين لها.
وبالتالي، فإن هذه الحسابات الدقيقة فرضت على قسد اتباع نهج أكثر براغماتية، يحافظ على قدر من التوازن بين مختلف القوى، دون الانحياز بشكل كامل لمحور واحد قد يؤدي إلى عزلها سياسيًا وعسكريًا في معادلة الصراع السوري.
3. السناريو الثالث: البقاء ككيان مستقل، لكن ذلك كان سيؤدي إلى عزلة سياسية واقتصادية، ويجعلها عرضة للضغط التركي المتواصل. في ظل هذه المعضلة، جاء الفراغ الأمريكي ليدفع قسد نحو اتفاق يمنحها حكمًا ذاتيًا جزئيًا، لكنه يبقيها ضمن نطاق الحكومة السورية الجديدة، تحت رقابة أنقرة وواشنطن.
ثالثاً- إسرائيل؛ أكثر من مجرد مواجهة لإيران
لم يكن الغزو البرّي الإسرائيلي المستمر لسوريا منذ 2024 مجرد حملة لضرب النفوذ الإيراني، بل كان جزءًا من استراتيجية طويلة المدى لإعادة تشكيل خارطة النفوذ في الشرق الأوسط. فبعد سقوط نظام الأسد، استغلت إسرائيل الفراغ السياسي والعسكري لخلق ممر بري يمتد من سوريا إلى العراق، كجزء من خطتها لتوسيع نفوذها الجيوسياسي وتأمين طرق التجارة والطاقة في المنطقة.
عملت إسرائيل على تفكيك الدولة السورية وإضعاف الحكومة المركزية، مما مكّن تل أبيب من تنفيذ عمليات عسكرية دون مقاومة فعلية. ومع انهيار الجيش السوري وتفكك البلاد، بات لإسرائيل فرصة للتوسع شرقًا عبر مناطق النفوذ الأمريكي وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي أصبحت إحدى الأدوات التي تمر عبرها هذه الخطة.
إلى جانب ذلك، أصبح التنسيق الإسرائيلي – التركي أكثر وضوحًا، حيث سمحت أنقرة لإسرائيل بالتحرك بحُرّية في سوريا، مقابل دعمها في تأمين مناطق نفوذها شمال البلاد. كما دعمت الولايات المتحدة هذه التحركات، طالما أنها تحقق الهدف المشترك بإضعاف إيران ومنعها من إعادة بناء طريق بري يربط طهران ببيروت عبر سوريا والعراق.
إلا أن هذا المشروع لا يخلو من المخاطر، إذ أن إيران لن تتخلى بسهولة عن نفوذها في سوريا والعراق، وروسيا قد تعود إلى المشهد إذا شعرت بأن التوازن بدأ يختل لصالح الولايات المتحدة. في هذا السياق، لم تعد إسرائيل تفكر فقط في الدفاع عن حدودها، بل باتت تلعب دورًا رئيسيًا في إعادة رسم الحدود الجيوسياسية للمنطقة، مما يجعل سوريا والعراق نقاط ارتكاز في مشروعها الجديد للشرق الأوسط.
رابعاً- مستقبل الاتفاق: هل يبقى أم ينهار؟
مع استمرار تنفيذ هذا الاتفاق، هناك ثلاثة سيناريوهات ممكنة:
1. تحول قسد إلى شريك دائم داخل الحكومة السورية الجديدة: سيؤدي هذا إلى إعادة هيكلة النظام السياسي السوري، بحيث تصبح قسد مكونًا معترفًا به في الحكم، دون استقلال عسكري كامل.
2. انهيار الاتفاق بسبب رفض تركيا منح الأكراد مساحة سياسية أكبر: إذا شعرت أنقرة أن الاتفاق منح الأكراد أكثر مما ينبغي، فقد تلجأ إلى تقويضه عسكريًا، مما قد يؤدي إلى تجدد القتال في الشمال السوري.
3. توسع الدور الإسرائيلي في سوريا، مما قد يدفع إيران إلى محاولة عرقلة الاتفاق: إذا شعرت إيران أن الاتفاق يقوض نفوذها بشكل كبير، فقد تلجأ إلى دعم قوى كردية منشقة ضد الإتفاق الجديد لموازنة المعادلة.
خاتمة: الاتفاق كأداة لترتيب إقليمي أوسع
لم يكن الاتفاق بين حكومة الشرع وقسد نتاج شراكة سياسية حقيقية، بل كان خطوة فرضتها الحاجة الاقتصادية والاستراتيجية للطرفين. ومع ذلك، فهو يعكس بشكل واضح التحالفات الجديدة في المنطقة، حيث تلعب تركيا دور الحاكم الفعلي في دمشق، بينما تستفيد إسرائيل من تفكيك سوريا لتوسيع نفوذها شرقًا، وتعيد الولايات المتحدة ترتيب المشهد بما يضمن توازن القوى وفق مصالحها.
أما فيما يخص العراق، ومساعيه للتصدي لهذا التمدد والتعامل مع التحديات الناشئة عن التعقيدات المتسارعة في المشهدين السياسي والأمني السوري، فسأتناول ذلك في المقال القادم بتحليل موجز يسلط الضوء على أبعاده الاستراتيجية وأدوات المواجهة الممكنة.
https://telegram.me/buratha
