المقالات

وقفة وتحليل: ((وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ))

1214 2023-08-04

د.أمل الأسدي ||

 

(أحياءٌ) كلمةٌ مُحمَّلةٌ بالفاعلية والاستمرار، وهي تقابل (الأموات) وكأنها وردت لتنسف تخوف الإنسان من الموت، وتزيل ذلك التهيّب  من ذكره، تبدد رائحته  التي تباغتك حتی وأنت تتحدث عنه!  وقد نهانا الله تعالی أن ننعت الشهداء الذين مضوا في سبيله بأنهم أموات!!

وألزمنا  بحياتهم حين قال:((وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ))(١)

هكذا جاء السياق ناهيا( لاتقولوا)!!

لمن  يارب؟ لمن يُقتل!!

أي أنهم أحياء، ونحن نحاورهم، فلم يرد السياق مثلا: لاتقولوا عن الذين قُتلوا في سبيل الله!

بل ورد بهذه الصيغة: لا تقولوا لمن يُقتل

وكأن هذه اللام اللصيقة بـالاسم الموصول (مَن) وقربها منه، هي عينها المسافة بيننا وبين الشهداء في هذه الحياة!!

وكذلك  استعمال الاسم الموصول(من) الذي أضاف نوعا من السعة والشمول لجميع الشهداء، من عصر النص إلی عصرنا، ثم مجيء الفعل (يُقتل) المبني للمجهول،  عضّد معنی الشمول والسعة، وأضاف إليهما تصورا عن  تعدد طرق التضحية وتغير وسائلها بحسب الزمان والمكان والقضايا، وكذلك يعطينا معنی آخر، وهو أن التركيز هنا علی المقتول(الشهيد) وليس علی القاتل!! وهذا فيه تسلية لذوي الشهيد من جهة، وضمان من الله بأنه  هو ولي الدم، وهو المنتقم من جهة أخری؛ لهذا بُني الفعل للمجهول، فهو مجهول بالنسبة إلينا، وهيّن ومُحَاط به عند الله تعالی!!

فالله هو الضامن لحق الشهيد الذي مضی في سبيله، وهو حي، وقد أثبت السياق لهم الحياة باستعماله( بل) وكأنها  جاءت كمطرقةٍ لتعدّل ما صدر من المتكلم  الذي ينعت الشهداء بالأموات!! فتخيل قوة الضدية بين(أمواتٌ، أحياءٌ) وكأنها نسقٌ يركض بك سريعا ليصحح ويعبد الطريق، فحذف المبتدأ(هم) وأبقی الخبر(أمواتٌ)، وقلب الصورة التي فرضها الناس (المتكلمون) من الموت الی الحياة، بسرعةٍ وقوة، فحذف المبتدأ(هم) وأبقی الخبر(أحياء)!!

ولاحظ المد المتصل في كلمة (أحيااااااء)  وكأنه مدٌّ في حياتهم، أو إعلان حياة ممتدة! فلا سبيل للسامع  أن يتصور أنهم أموات بعد إعلان حياتهم(أحيااااااء)!!

وحياتم ثابتة بثبات الجمل الاسمية.

ولكن لا تشعرون!! وقد جسد الفعل المضارع(تشعرون) استمرارية عدم شعورنا  بحياتهم، تلك الحياة التي يحفظها الله عنا وعن الدنيا، فهي حياة علوية، لا إحباط فيها ولا انزلاق ولا تغير! فهم يرون مانراه، ويرون ما لانراه!!

ومن أفضل المشاهد التي تؤنس المتلقي، وتكمل الصورة لديه، مشهد الإمام الحسين وابنه علي الأكبر (عليهما السلام) في يوم عاشوراء النهضة الحسينية، فحين برز "علي  الأكبر" للقتال، وجّه الإمامُ خطابا إلی جيش العدو، وجهه كحجةٍ أخری عليهم، إذ قال:(اللهم اشهد على هؤلاء فقد برز إليهم أشبه النّاس برسولك محمّدٍ خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً، و كنّا إذا اشتقنا إلي رُؤيةِ نَبيك نَظرنا إليه)(٢) وعلی الرغم من هذا التذكير وقوته،إذ ذكرهم برسول الله الأعظم ومنطقه وصورته، الرسول الذي ثبّت مكانة الإمام الحسين حين قال(صلی الله عليه وآله):(حسينٌ مني وأنا من حسين، أحبَّ اللهُ من أحبَّ حسينا...)(٣) ومع ذلك مضی القوم في  قرارهم بمحاربة ابن بنت رسول الله وأهل بيته وصحبه، مضوا وهم يقدّمون منطق الدنيا ومفاتنها، علی منطق الآخرة ومصاديقه الحاضرة أمامهم، فهم وظّفوا منطق القوة في مواجهتهم، بينما وظّف الإمام قوةَالمنطق!! فنزل علي  الأكبر وهو يرتجز:

نحن وربّ البيت أولـــــــى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي

أضرب بالسيف أحامي عن أبي

ضرب غلام هاشمي قرشي(٤)

وبعد نزالٍ شديد، وبسالة فريدة،فهو يقاتل والعطش قد أنهكه!! أُصيب علي الأكبر وهوی شهيدا، وفي هذه الأثناء  نادی علی أبيه الحسين(ع) مخبرا إياه  بما يراه، إذ صار يری ما يراه الآخرون، ويری ما لايرونه!!

فهو ـ الآن-  ينتقل إلی عالم الكشف والتجلي، عالم الروح الذي لايعترف بحدود الدنيا ومنطقها؛ لذا قال علي الأكبر:(يا أبتاهُ، هذا جَدّي رسول الله قد سَقاني بكأسه الأوفى شِرْبةً لا أظمأ بعدها أبداً وهو يقولُ العَجَل العَجَل فإنّ لك كأساً مذخورة، ثم فاضت روحه الطاهرة"(٥)

وفي هذا المشهد تجسدت مفردة( أحيااااااء) ولكن لاتشعرون، مشهد يبين مدی التفاعل بين العوالم، فعالم الشهداء الممتد الی السموات، قريب من عالمنا، قريب من تفاصيله، فهم شهداء بمعنی الشهادة والحضور والتفاعل، فضلا عن شهادتهم  علی ظالميهم وقاتليهم في الآخرة، وهم الأحياء الذين يتنعمون بالأبدية الإلهية، لذا قال علي الأكبر: لا أظمأ بعدها أبدا !!

فقد تمت  مغادرة عالم النفاد بنجاح باهر، وثبات متفرد، وموقف مشهود من الله ورسوله!!

فنحمد الله تعالی علی كرمه،إذ جعل الدنيا دار فناء، وجعل الآخرة دار البقاء، والسلام علی قوافل الشهداء التي مضت في سبيل كلماته.

ــــــــــــــــــ

١- سورة البقرة،الآية: ١٥٤

٢- مقتل الحسين، أبو مؤيد الموفق الخوارزمي،:٢/ ٣٤

٣- سنن ابن ماجه،محمد بن يزيد القزويني،١ / ٥١، بحار الأنوار،العلامة المجلسي:٤٢/ ٢٧١

٤- الإرشاد، محمد العكبري البغدادي،الشيخ المفيد:٢٤٤

٥- مقاتل الطالبيين،أبو الفرج الأصفهاني: ١١٦

 

ـــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك