المقالات

الحجّ، فيصلٌ بين عهدين..


كوثر العزاوي ||

 

فَرَض الله تعالى الحجّ مرة واحدة في العمر، وكأنه يقول لنا: ياأيها الإنسان المسلم، إذا حجَجتَ، فيجب أن يكون ذلك فيصلًا بين عهدين من عمرك، عهدٌ مضى وعهدٌ آت، خصوصا لو كان مامضى قد ترك بصمات موجعة ألقَت بظلالها على الروح لتصبح مرهقَة والنفس مثقلة، فكأنّ الرب الرؤوف يقول لعبدهِ الكسير، مهما نأيتَ عني أتيتُ بك لمحطةِ جَبرٍ تُظلّك وتربّتُ على كتفك لتحطّ عندها الآلام وتنفض عنك أتربة الأوزار! وها أنت وحيد بعيد عن قومك ومحبّيك، فلتدَع خلف ظهرك كل شيء أخذ منك جزءًا وتركك منتصف الطريق، حتى أكرمكَ اللهُ لتحُلّ ضيفًا في فناء بيته، وقد تجلّى كَرمهُ "عزوجل" في كنهِ لطفهِ وفي عظمته سبحانه! وأنت ترى بعين القلب فيض رأفته وعطفهِ متألقًا في رعاية عبده حينما يسَّرَ له سُبل الوفود والقرب! وعندئذ ستشعر أيها العبد بآدميتك على نحوٍ يبعث على الشوق العارم، وتلك العينان محدِّقتان ببهاء الكعبة الذي يأخذ بالألباب، السماء غير السماء والهواء غير الهواء، حتى يبدو كل شيء مختلف لانظير له!! فيُشعلُ فتيل الرغبة والمسارعة إلى كل مامن شأنه يسمو بالنفس طالما حلمتَ بمصداقٍ لترنيمة "إلهي هبْ لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرقَ أبصار القلوب حُجُبَ النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك"!! فلعلّ لحظة انقطاعٍ تختصر عمرًا، أجل!!

فأنّ للطهر رائحة معبّقة بالسكينة  ونبذ الدنيا، لتجد بعدها أنك أقدَر على التعلق بربّ الخلائق كلّها وحده لا شريك له، إذ تضعف شهوة الجوارح عما اعتادت عليه من حطام الدنيا وملذاتها، ليشعر العبد بالحاجة والافتقار فيتصل بالقيوم الذي يحتاجه كل شيء ولا يحتاج لشيء، فيتوجه إليه لا إلى غيره، فيَعظم توحيده في قلبه، إحساس غريب في العزم على تجديد الحياة

على نحو الإعداد النفسي والدخول في حالة روحية نفسية شخصية اجتماعية، بل حتى الجسدية منها، مختلفة عن حالته السابقة بتمامها! إنها حالة إحرام حقّا، حيث إلحاح الحاجة برضا كامل بالتخلص من أكبر قدر من العلائق الأرضية المادية، عهد جديد وللنفس ما يشغلها  لتكتمل تلك الإعدادات الروحية بعد التخلص من أوحال التعبّد والتعلق بغير الله، مخلصًا قلبه وروحه وحياته لله تعالى! رحلة مضنية طويلة تنبثق عنها مشاعر التوحيد التي امتزجت بالتاريخ "مكة والمدينة" تتحرك عندها النفس ويهتز الخاطر، ويمتلئ الوجدان، وينتشي الكون تسبيحًا لله جل وعلا "سبح لله ما في السموات وما في الأرض" نحن نعلم أنّ كل شيء في هذه الدنيا ينقضي، حتى هذه العبادة، التي هي من أمتع العبادات بل وألذها، ستنقضي وينقضي تعبها، ولاتنقضي لذتها بل ستبقى في الفؤاد آثارها العابقة، وسيبقى حب الله ولقائه، والانخلاع عن كل ما سواه أثرًا حافزًا على المضي وعهد جديد.

 

من جوار الكعبة المشرّفة

٤-ذي الحجة ١٤٤٤هج

٢٤-حزيران ٢٠٢٣م

 

ــــــــــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
زياد مصطفى خالد : احسنت تحليل واقعي ...
الموضوع :
مسرحية ترامب مع زيلنسكي والهدف الامريكي !!
ابو حسنين : انظرو للصوره بتمعن للبطل الدكتور المجاهد والصادق جالس امام سيد الحكمه والمعرفه السيد علي السستاني بكل تواضع ...
الموضوع :
المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني يستقبل الطبيب محمد طاهر أبو رغيف
قتيبة عبد الرسول عبد الدايم الطائي : السلام عليكم اود ان اشكركم اولا على هذا المقال واستذكاركم لشخصيات فذة دفعت حياتها ثمنا لمبادئها التي ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
م خالد الطائي : السلام عليكم, شكرا لصاحب المقال, عمي مالك عبد الدايم الطائي: خريج 1970م، تخرج من كلية العلوم بغداد ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
ام زهراء : مأجورين باىك الله فيكم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
علاء عبد الرزاق الانصاري : الاهم صلي على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
فيسبوك