المقالات

الذاكرات الباردة والذاكرات الساخنة


د محمد القريشي ||

 

في عام  1973 وضع الانثروبولوجي (ليفي ستروس) مفهومي المجتمعات الباردة والمجتمعات الساخنة، وأظهر التباينات بينهما؛ إذ توثق المجتمعات الباردة الأحداث والوقائع وحتى الطقوس دون ربطها بالحياة اليومية أو مستقبل الجماعة وأفرادها. وعلى خلاف ذلك، تدرج المجتمعات الساخنة أحداثها ووقائعها الماضية في سلوكيات أفراد الجماعة، بطريقة تجعل ذاكرتها معبرة عن بناء اجتماعي للماضي وحاملة "للمعنى"، وهذا يجعل مفهوم الذاكرة الساخنة معبرا عن "الاستمرارية وتدفق المعنى" بآن واحد على خلاف الذاكرة الباردة التي تنقطع فيها الاستمرارية وتخذل تدفق المعنى عبر المدد الزمنية المتتالية.

بعبارة أخرى، تعيش الذاكرة الساخنة داخل الأجساد وتختزن الماضي الذي لا يقتصر وجوده على الوثائق والطقوس. وفي هذا المجال، يتم استدعاء الماضي بشكل مستمر لتوجيه مسارات أفراد الجماعة وانشغالاتهم حول طبيعة وجودهم ومصائرهم وهي ملازمة للأنا (الفردية) ونحن (الجمعية).

يتذكر اليهود دوما نبوخذ نصر وهتلر ويتذكر المسيحيون كذلك صلب السيد المسيح وموته وقيامته وكأن ذلك قد حدث قريبا، ويستذكر الشيعة حادثة الطف التي استشهد فيها الإمام الحسين بن علي بن ابي طالب ويعيدون قراءة القصة في كل عام والتعبير عن أحداثها بشكل طقوس جماعية وفردية مثل (مسيرة الأربعين) أو (ركضة طويريج) في تجسيد كامل لحاجة الشيعة (للتذكر) وتجنب النسيان، كما تظهره أبيات قصيدة الشاعر جابر الكاظمي (ابد والله لن ننسى حسينا):

ابد والله لن ننسى حسينا

وذا عهد ومعهود علينا                                                                     

وتحرص الجماعة الشيعية خلال ممارستها للطقوس على تجسيد (المعنى) الذي تحمله واقعة الطف سلوكيا خلال أوقات التذكر (زيارات عاشوراء والأربعين). ويظهر ذلك جليا في أفعال التسامح بين الأفراد والصبر على قطع مسافات بعيدة وصولا إلى كربلاء وتوفير الطعام والشراب والخدمات بشكل مجاني.

تتحول بعض المجتمعات الباردة إلى ساخنة حين تجد نفسها فجأة داخل عاصفة التأريخ كما حدث للجماعة اليزيدية في العراق التي كانت تمارس طقوسها في مناطقها بشكل منعزل ولكن تعرضها إلى عمليات إبادة جماعية وسبي للأطفال والنساء خلال غزو (داعش) لمناطقهم، جعلها تعبر عن محنتها بأشكال متعددة ودفع أعدادا كبيرة من أفرادها إلى الهجرة واستذكار عمليات الإبادة أمام المجتمع الدولي. وعلى الرغم من حدوث عمليات إبادة سابقة لليزيدين عبر التاريخ، فإنَّ هذه العملية قد حظت باهتمام  الرأي العام في أنحاء العالم بسبب تغطيتها بصورة حية من قبل القنوات الإعلامية العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي فضلا عن وجود قوات التحالف الدولي لمحاربة (داعش) في العراق ونجاح بعض الضحايا في الوصول إلى المحافل الدولية وسرد الأحداث وآثارها والحصول على اعتراف قانوني دولي بعملية الإبادة.

وفي السياق ذاته، انتقل سكان أميركا الهنود من "البرودة الاجتماعية" إلى "السخونة" بعد تمردهم على واقعهم الجديد الذي وضعهم فيه المستعمرون وتشكيل ذاكرة خاصة بأزمتهم وتنظيم واقعهم من أجل كسب الحرية واسترداد أراضيهم المغتصبة. وفي مقابل ذلك، يمكن للمجتمعات الساخنة أن تبرد عند ما تتوقف عن إنتاج التطور وتكرار أحداثها بعيدا عن التجديد. وتمثل بعض التهديدات في المجتمعات الساخنة مثل البطالة والانفجار السكاني والحروب مؤشرات التحول إلى مجتمعات باردة.

 

 (من بحث الذاكرة في بناء الدولة والمجتمع)

 

ـــــــــــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاكثر مشاهدة في (المقالات)
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
زياد مصطفى خالد : احسنت تحليل واقعي ...
الموضوع :
مسرحية ترامب مع زيلنسكي والهدف الامريكي !!
ابو حسنين : انظرو للصوره بتمعن للبطل الدكتور المجاهد والصادق جالس امام سيد الحكمه والمعرفه السيد علي السستاني بكل تواضع ...
الموضوع :
المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني يستقبل الطبيب محمد طاهر أبو رغيف
قتيبة عبد الرسول عبد الدايم الطائي : السلام عليكم اود ان اشكركم اولا على هذا المقال واستذكاركم لشخصيات فذة دفعت حياتها ثمنا لمبادئها التي ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
م خالد الطائي : السلام عليكم, شكرا لصاحب المقال, عمي مالك عبد الدايم الطائي: خريج 1970م، تخرج من كلية العلوم بغداد ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
ام زهراء : مأجورين باىك الله فيكم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
علاء عبد الرزاق الانصاري : الاهم صلي على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
فيسبوك