المقالات

لماذا العبادة؟!

1188 2021-04-17

 

نعمه العبادي ||

 

بالرغم من أن معالم العبادة بأشكالها المختلفة، اقترن ظهورها مع ظهور البواكير الأولى للانسانية، فما من آثار قديمة تدل على وجود الانسان وحركته إلا كان لشيء ما متعلق بالعبادة حضوراً واضحاً ضمن هذا المشهد إلا ان الجدل حول مكانة وأهمية وضرورة العبادات في حياة الانسان لم يتوقف، وفي كل مقطع زمني معين، يظهر بشكل ما، فمرة يشكك في اصل العبادة وجدواها وأخرى يتعرض الى بعض العبادات وضرورة استمرارها.

على غير المعتاد، أخرج المفكر والمرجع الشهيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) رسالته العملية التي (تمثل آرائه الفقهية وفتاواه في ابواب العبادات والمعاملات)، فكانت مختلفة في اسمها، حيث سماها (الفتوى الواضحة)، ثم بدل ان يشرع مباشرة بفتاوى الاجتهاد والتقليد، صدرها ببحثين قيمين، احدهما تناول اساسات العقيدة تحت عنوان (المرسل والرسول والرسالة)، والثاني عن العبادات، وجاء تحت عنوان (العبادات حاجة انسانية ثابتة).

طرح الصدر سؤالاً مهماً وجريئاً: هل هناك حقا حاجة ثابتة في حياة الانسان منذ بدات الشريعة دورها التربوي للانسان، وظلت حاجة انـسانية حية باستمرار الى يومنا هذا، لكي نفسر على اساس ثباتها ثبات الصيغ التي عالجت الشريعة بـمـوجـبـهـا تـلك الحاجة واشبعتها، وبالتالي نفسر استمرارالعبادة في دورها الايجابي في حياة الانسان ؟

بعد ان يجيب الصدر بالاثبات، يفسر علة هذه الاجابة على ان :نـظـام الـعـبادات في الاسلام علاج ثابت لحاجات ثابتة من هذا النوع ولمشاكل ليست ذات طبيعة مـرحـلـية، بل تواجه الانسان في بنائه الفردي والاجتماعي والحضاري باستمرار، ولا يزال هذا الـعـلاج الـذي تعبر عنه العبادات حياً في اهدافه حتى اليوم، وشرطاً اساسياً في تغلب الانسان على مشاكله ونجاحه في ممارساته الحضارية.

ولكي يفسر هذا الثبات، يشير الى ثلاثة خطوط ثابتة وضرورية في حياة الانسان تعمل العبادات بشكل دائم مستمر على معالجتها، ولا بديل عنها، وتتمثل تلك الخطوط في الآتي:

١- الحاجة إلى الارتباط بالمطلق: الارتباط بالمطلق مشكلة ذات حدين

قـد يجد الملاحظ ـ وهو يفتش الادوار المختلفة لقصة الحضارة على مسرح التاريخ ـ ان المشاكل مـتـنـوعـة والهموم متباينة في صيغها المطروحة في الحياة اليومية، ولكننا اذاتجاوزنا هذه الصيغ ونـفـذنـا الـى عـمـق المشكلة وجوهرها استطعنا ان نحصل من خلال كثير من تلك الصيغ اليومية الـمتنوعة على مشكلة رئيسية ثابتة ذات حدين او قطبين، متقابلين، يعاني الانسان منهما في تحركه الحضاري على مر التاريخ، وهي من زاوية تعبر عن مشكلة : الضياع واللاانتماء، وهذا يمثل الجانب السلبي من المشكلة، ومن زاوية اخرى تعبر عن مشكلة الغلو في الانتماء والانتساب بتحويل الحقائق الـنـسـبية التي ينتمي اليها الى مطلق، وهذا يمثل الجانب الايجابي من المشكلة، وقد اطلقت الشريعة الـخاتمة على المشكلة الاولى اسم : الالحاد، باعتباره المثل الواضح لها، وعلى المشكلة الثانية اسم : الوثنية والشرك، باعتباره المثل الواضح لها ايضا، ونضال الاسلام المستمر ضد الالحاد والشرك هو في حقيقته الحضارية نضال ضد المشكلتين بكامل بعديهما التاريخيين.

وتـلتقي المشكلتان في نقطة واحدة اساسية، وهي : اعاقة حركة الانسان في تطوره عن الاستمرار الخلاق المبدع الصالح، ومن هنا تقدم العبادات علاجها الناجع عبر اخراج الانسان من تيهه وضياعه من خلال ربطه بالله سبحانه وتعالى، وبما أن الله المطلق الذي لا حد له، فإنه يعطي الانسان فضاء لا متناهي في الكدح إليه، والتحرك تجاهه، عبر تمثل اسمائه الحسنى وصفاته العليا، وكان الشعار (لا إله إلا الله)، فالنفي يمنع الارتباط بالمثل الدانية، والاثبات يربطنا بالمطلق اللامتناهي.

وعـلى هذا الضوء نعرف ان العبادة ضرورة ثابتة في حياه الانسان ومسيرته الحضارية، اذ لا مسيرة بـدون مـطـلـق تنشد اليه وتستمد منه مثلها، ولا مطلق يستطيع ان يستوعب المسيرة على امتدادها الـطـويل، سوى المطلق الحق سبحانه، وما سواه من مطلقات مصطنعة يشكل حتما بصورة واخرى عـائقـا عـن نـمـو المسيرة، فالارتباط بالمطلق الحق اذن حاجة ثابتة، ورفض غيره من المطلقات الـمـصـطـنـعة حاجة ثابتة ايضا، ولا ارتباط يؤكده ويرسخه باستمرار، وهذا التعبير العملي هو العبادة، فالعبادة اذن حاجة ثابتة.

٢- الموضوعية فيالقصد وتجاوز الذات: من خلال مسيرة الانسانية، يقسم الصدر المصالح التي يتحرك النشاط الانساني لأجلها، فهي أما مصالح ذاتية تعود منافعها لذات الانسان، وأما تتعلق بالآخرين ومن اجلهم، وان الدوافع الذاتية كافية في تحريك الانسان تجاه مصالحه، لكن التحدي الاكبر يكمن في تحريك الانسان للعمل من اجل مصالح الآخرين، خصوصاً إذا تضمن ذلك التضحية بمصالحه الشخصية.

وهنا يأتي دور العبادات في معالجة هذه المشكلة، فهي تقوم بدور كبير في هذه التربية الضرورية، لانها اعمال يقوم بها الانسان من اجـل اللّه سبحانه وتعالى، ولا تصح اذا اداها العابد من اجل مصلحة من مصالحه الخاصة، ولا تسوغ اذا اسـتـهـدف من ورائها مجدا شخصيا وثناء اجتماعيا وتكريسا لذاته في محيطه وبيئته، بل تصبح عـمـلا مـحـرما، يعاقب عليه هذا العابد، كل ذلك من اجل ان يجرب الانسان من خلال العبادة القصد الـموضوعي، بكل ما في القصد الموضوعي من نزاهة واخلاص واحساس بالمسؤولية، فياتي العابد بعبادته من اجل اللّه سبحانه وفي سبيله باخلاص وصدق.

وسبيل اللّه هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الانسان، لان كل عمل من اجل اللّه فانما هو من اجل عباد اللّه، لان اللّه هو الغني عن عباده، ولما كان الاله الحق المطلق فوق اى حد وتخصيص لا قرابة له لفئة ولا تحيز له الى جهة، كان سبيله دائما يعادل من الوجهة العملية سبيل الانسانية جمعاء.

٣- الشعور الداخلي بالمسؤولية: تنتظم حركة البشرية عبر منظومات توزيع الحقوق والواجبات، ويمكن قياس تطور ونضوج أي مرحلة زمانية من خلال استقرار وعدالة هذه المنظومة.

مما لا شك فيه، ان هذه المنظومات تتعرض للحيف والاهتضام والتقصير والظلم بأشكال مختلفة، لذلك وجب ان تكون هناك ضمانات لحمايتها وردع مخالفيها، وتمثل انظمة العقوبات المختلفة بحسب تعدد مرجعياتها الضمانة الموضوعية لحفظ هذه المنظومة، بينما يمثل الشعور الداخلي بالمسوولية الجانب الذاتي في الضمانات.

وعلى الرغم من ان الضمانات الموضوعية لها دور كبير في السيطرة على سلوك الافراد وضبطه، فانها لا تكفي في احايين كثيرة بمفردها، ما لم يكن الى جانبها ضمان ذاتي ينبثق عن الشعور الداخلي للانسان بالمسؤولية، لان الرقابة الموضوعية للفرد مهما كانت دقيقة وشاملة لا يمكن عادة ان تضمن الاحاطة بكل شيء واستيعاب كل واقعة. الشعور الداخلي بالمسؤولية يحتاج لكي يكون واقعا عمليا حيا في حياة الانسان الى ايمانه برقابة لا يعزب عن علمها مثقال ذرة في الارض ولا في السماء، والى مران عملي ينمو من خلاله هذا الشعور ويترسخ بموجبه الاحساس بتلك الرقابة الشاملة.

ان تطوير هذا الشعور بالمسؤولية يحتاج الى مران عملي مستمر، وهذا والمران الذي ينمو من خلاله هذا الشعور الداخلي بالمسؤولية يتحقق عن طريق الممارسات الـعـبـاديـة، لان العبادة واجب غيبي، ونقصد بكونها واجبا غيبيا ان ضبطها بالمراقبة من خارج امر مـسـتحيل، فلا يمكن ان تنجح اي اجراءات خارجية لغرض الاتيان بها، لانها متقومة بالقصد النفسي والـربـط الـروحي للعمل باللّه، وهذا امر لا يدخل في حساب الرقابة الموضوعية من خارج، ولا يمكن لاي اجراء قانوني ان يكفل تحقيقه، وانما الرقابة الوحيدة الممكنة في هذا المجال هي الرقابة الـنـاتجة عن الارتباط المطلق بالغيب، الذي لا يعزب عن علمه شيء، والضمان الوحيد الممكن على هذا الصعيد هو الشعور الداخلي بالمسؤولية، وهذا يعني ان الانسان الذي يمارس العبادة يباشر واجبا يـخـتلف عن اي واجب او مشروع اجتماعي آخر، فحين يقترض ويوفي الدين، او حين يعقد صفقة وينفذ شروطها، وحين يستعير مالا من غيره ثم يعيده اليه يباشر بذلك واجبا يدخل في نطاق الرقابة الاجتماعية رصده، وبهذا قد يدخل بشكل آخر التحسب لرد الفعل الاجتماعي على التخلف عن ادائه فـي اتخاذ الانسان قرارا بالقيام به، واما الواجب العبادي ـ الغيبي ـ الذي لا يعلم مدى مدلوله النفسي الا اللّه سبحانه وتعالى فهو نتيجة للشعور الداخلي بالمسؤولية، ومن خلال الممارسات العبادية ينمو هذا الشعور الداخلي ويعتاد الانسان على التصرف بموجبه، وبهذا الشعور يوجد المواطن الصالح، اذ لا يكفي في المواطنة الصالحة ان لا يتخلف الانسان عن اداء حقوق الاخرين المشروعة خوفا من رد الـفـعل الاجتماعي على هذا التخلف، وانما تتحقق المواطنة الصالحة بان لا يتخلف الانسان عن ذلك بدافع من الشعور الداخلي بالمسؤولية، وذلك لان الخوف من رد الفعل الاجتماعي على التخلف لو كان وحده هو الاساس لالتزامات المواطنة الصالحة في المجتمع الصالح، لامكن التهرب من تلك الواجبات في حالات كثيرة، حينما يكون بامكان الفرد ان يخفي تخلفه، او يفسره تفسيرا كاذبا، او يحمي نفسه مـن رد الـفـعل الاجتماعي بشكل وآخر، فلا يوجد في هذه الحالات ضمان سوى الشعور الداخلي بالمسؤولية.

ارجو ان قدم هذا العرض الموجز والمركز لحقيقة العبادات ودورها في الحياة الانسان الاجابة الكافية والشافية لسوال عنواننا.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك