المقالات

طلب السعادة..!


 

محمد عبد الجبار الشبوط ||

 

صدق الفيلسوف الالماني إمانويل كنت (١٧٢٤-١٨٠٤) حينما قال ان السعادة هي "بالضرورة مطلب كل كائن عاقل فان" على اعتبار ان السعادة هي وعي هذا الكائن "بطيبات الحياة المرافقة لوجوده بلا انقطاع". وعبارة "طيبات الحياة" تعيد الى الذاكرة قول القران الكريم: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً"، او قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ". ويرتبط حب السعادة بغريزة انسانية اعمق هي "حب الذات" التي قال عنها محمد باقر الصدر اننا "لا نعرف غريزة اعم منها واقدم". وهي غريزة قابلة للتمدد افقيا وعموديا: افقيا اذا استطاع الانسان توسيعها لتشمل غيره من البشر، فتصبح غريزة انسانية، وعموديًا لتشمل الدنيا والاخرة فتصبح اخروية ايضا.

واليوم اصبح بالامكان قياس السعادة لدى شعوب الارض. وللاسف فان العراق لا يعد من الدول السعيدة حيث لم يحقق درجة النجاح في مؤشر السعادة، محرزا 4.785 فقط من ١٠.  ومن حق المواطن العراقي ان يشكو من عدم سعادته في وطنه. فلا يشعر هذا المواطن ان "طيبات الحياة" ترافقه منذ لحظة ولادته الى لحظة وفاته. فهو يفتقد الكثير من هذه الطيبات من الامن والصحة والغذاء والعمل وغير ذلك مما يطول تعداده. وقد بينت في مقال سابق ان البؤس (وهو القيمة المعاكسة للسعادة) موجود في العراق منذ زمن بعيد.

والحياة الطيبة المسببة للشعور بالسعادة هي النتاج المباشر للمركب الحضاري وعناصره الخمسة اي الانسان والارض والزمن والعلم والعمل، وهي العناصر التي تتفاعل في اطار منظومة قيم عليا تضمن اشتغال هذه العناصر بافضل طريقة منتجة للسعادة. والارض هي المادة الاولية في هذا المركب الحضاري، والارض العراقية ثرية معطاءة في سطحها وجوفها،  على السواء، فالاراضي الصالحة للزراعة موجودة، والمياه متوفره، والثروات الطبيعية وفي مقدمتها النفط غزيرة. وقد استطاعت هذا الارض ان تطعم الملايين من البشر منذ الاف السنين، بل ان الانسان اكتشف الزراعة فيها، واقام عليها اولى القرى الزراعية. واذاً فليس بوسعنا ان نحمل الارض العراقية مسؤولية بؤس وتعاسة الحياة فيها،  فليس الخلل في الارض، انما الخلل في الانسان الذي يسكنها، وبكيفيه استثماره لها من خلال العناصر الاخرى الثلاثة في المركب الحضاري وهي: الزمن والعلم والعمل. وسوء الاستثمار، او الاستعمار بالتعبير القراني "وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا"، يحصل بسبب الخلل الحاد في منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري. وقد انقسم الناس منذ ظهور السلطة السياسية الى فئتين: فئة الحاكمين وفئة المحكومين. وكل يتحمل جزءً من مسؤولية رداءة نوعية الحياة، مع القول ان فئة الحاكمين تتحمل القسط الاكبر من هذه المسؤولية. فاذا اردنا ان نحسّن نوعية الحياة، ونجعلها حياة طيبة قادرة على منح الانسانَ الشعور بالسعادة، وجب ان نحسّن نوعية الناس، حكاما ومحكومين، ويتم التحسين بطريقين على الاقل: التربية على القيم العليا، والقانون العادل الذي يستبطن العقوبة لمن خالفه. ولعل هذه هو ما ترمي الى بيانه الاية القرانية القائلة: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ". وبالتفصيل اقول ان تحسين نوعية الحياة يتطلب تحقيق الاصلاح السياسي، باستبدال الحكام الفاسدين والحكم الفاسد بحكام صالحين وحكم رشيد، من جهة، كما يتطلب، من جهة ثانية،  الاصلاح التربوي الذي كثيرا ما تحدثت عنه في مقالات سابقة. وبين هذا وذاك يتطلب الامر اصلاح المنظومة القانونية ومستلزماتها من قضاء عادل مستقل وشرطة نزيهة نظيفة. وكل هذا يعني، في نهاية المطاف، اقامة دولة حضارية حديثة بوصفها الاطار الوحيد المحقق لسعادة الانسان.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
زياد مصطفى خالد : احسنت تحليل واقعي ...
الموضوع :
مسرحية ترامب مع زيلنسكي والهدف الامريكي !!
ابو حسنين : انظرو للصوره بتمعن للبطل الدكتور المجاهد والصادق جالس امام سيد الحكمه والمعرفه السيد علي السستاني بكل تواضع ...
الموضوع :
المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني يستقبل الطبيب محمد طاهر أبو رغيف
قتيبة عبد الرسول عبد الدايم الطائي : السلام عليكم اود ان اشكركم اولا على هذا المقال واستذكاركم لشخصيات فذة دفعت حياتها ثمنا لمبادئها التي ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
م خالد الطائي : السلام عليكم, شكرا لصاحب المقال, عمي مالك عبد الدايم الطائي: خريج 1970م، تخرج من كلية العلوم بغداد ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
ام زهراء : مأجورين باىك الله فيكم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
علاء عبد الرزاق الانصاري : الاهم صلي على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
فيسبوك