المقالات

( جدتي ) ..!!!

1845 2020-08-18

محمد وناس||

 

سيدة عجوز , بالرغم من عمرها الذي تجاوز الستين مازلت معالم الحسن تزين تضاريس وجهها المشرق .

كأن تراب الارض مزج بلون القمح ثم سقي من ماء الفرات ليصنع سمار ملامحها وزاده زينة وشم بلون الفيروز طرز وجهها ,

عينان اختلط فيهم لون العسل مع  ال بُن , وقادتان تنطقان بلا حروف . عصابة وشيلة بريسم . وعباءة سوداء تزيدها وقار وهيبة مع قصر قامتها الواضح . و فوق رأسها ( كوشر ) من خوص النخيل . وهي تتهادى في مشيتها بين ازقة الحلة تعيد نفس السؤال كل مرة لكل من يلاقيها بحثا عن ذلك الزقاق الذي تسكن فيه ابنتها الصغرى , وكأنها تصرخ بصمت ( كيف يمكنكم ان تعيشوا هكذا  محبوسين بين الازقة ) . وهي الريفية البرية الروح ,لا تسعها جدران ولا تعجبها حكايات المدينة,

من اخر الزقاق نسرع راكضين نحوها . ( جتي بيبي .. جتي بيبي ) نتراقص حولها فرحا وهي تنزل (الكوشر ) من فوق رأسها وتخرج ذلك الكيس الابيض الذي يعزف لحن الخردة من تحت (شيلتها  ) . لتوزع علينا خمس فلوس او عشرة لكل واحد منا في احسن الاحوال ,

لا نبرح المكان ... فما زال في جعبتها الكثير . ( الكوشر ) . بين بيض وجبن . ولبن الكيس . و ما حملته من الريف لنا ( صوغة ) ,  نقلب اغراضها ولا نترك شيء  دون ان  نعرف ما يحتويه , وبعد ان  ننتهي من  استكشافنا وننال حصتنا السريعة منه نركض مسرعين الى اقرب حانوت لنشتري بما اعطتنا من فلوس .

... جملها التي يطغى السجع عليها . او ابيات الشعر التي تلقيها بعفوية وارتجال تهكما او نقدا لما يدور حولها من احداث . او حتى اهازيج الفرح في ختان او عرس  احد احفادها , مازالت الى الان حاضرة في مخيلة من عاصرها .

 لكن ابرز ما تحمله الذاكرة من ارث تلك العجوز والأكثر ألما . نعيها والحزن العجيب المتفجر من بين عباراتها . حين ما تندب الراحلين من اعزائها , وكيف تختار الكلمات الاكثر وجعا وتخترع العبارات المشبعة لوعة لتهدم اخر اسوار الصبر لسامعيها , وفي لحظات احمرار الشمس ساعة الغروب حين تنزوي بعيدا عند تلك الشجرة في اخر ساحة البيت الريفي لتحول هذا الانين الى لحن بابلي قديم مثقل بكل هموم الرافدين والساكنين في هذه الارض

...... صور من لحظات التصقت بذاكرتي لتلك العجوز الفراتية ( جدتي ) مع مجموعة من صور اخرى قليلة ومتفرقة .

وكل ما فكرت ان اكتب شي من ذكرياتي تراودني  بقوة وتضغط على مخيلتي , قد يكون الحنين لتلك الايام , او بقايا  ما زرعته فينا جدتي من حب  , او اجترار لواقع عراقي لم يتغير منذ الازل نشاء معي كما حال العراقيين جميعا ,

وقد تتشابه الصور , فلا تختلف قصة هذه الفراتية عن قصص باقي العراقيات . والتي بدورها تشكل خزين ذاكرة عملاق لمن يخوض في ذاكرة بلد رسم الحزن الوانه القاتمة على محياه منذ فجر الكون . مع ومضات من فرح مبعثرة هنا وهناك نعيدها للذاكرة رغم عنها كل حين في محاولة منا لتحدي القسوة التي تجتاحنا كل ما تقادم بنا الزمن .

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
زياد مصطفى خالد : احسنت تحليل واقعي ...
الموضوع :
مسرحية ترامب مع زيلنسكي والهدف الامريكي !!
ابو حسنين : انظرو للصوره بتمعن للبطل الدكتور المجاهد والصادق جالس امام سيد الحكمه والمعرفه السيد علي السستاني بكل تواضع ...
الموضوع :
المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني يستقبل الطبيب محمد طاهر أبو رغيف
قتيبة عبد الرسول عبد الدايم الطائي : السلام عليكم اود ان اشكركم اولا على هذا المقال واستذكاركم لشخصيات فذة دفعت حياتها ثمنا لمبادئها التي ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
م خالد الطائي : السلام عليكم, شكرا لصاحب المقال, عمي مالك عبد الدايم الطائي: خريج 1970م، تخرج من كلية العلوم بغداد ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
ام زهراء : مأجورين باىك الله فيكم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
علاء عبد الرزاق الانصاري : الاهم صلي على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
فيسبوك