المقالات

((الحلقة الخامسة)) رصاصات البعث ... والأمن  


محمّد صادق الهاشميّ

 

أتذكر يوما أنّ الزّنزانة التي كنت فيها قد خلت ممّن كانوا معنا هذا بعد شهرين من الاعتقال ، ولم يبق فيها إلّا أنا ورفيق الدّرب الدّكتور «عليّ» ، فقال لي يوماً: إنّ أحد إخوانك موجود في الزّنزانة الأخرى .

وقال أيضا : أمّا أخوك الآخر السيّد مزهر الهاشميّ - على ما علمت من المعتقلين -  قد وافته المنية أثر جراحات التعذيب التي خدّت بجسده أخاديد، وكانوا يضربونه يوميا على نفس هذا الجراحات، فتزيد جراحاته حتّى مات من الضرب ، واحتمل هو أنّ جسده قد ألقي في التيزاب ، على ما سمعه

 سألته كيف عرفت أنّهم أخوتي ؟

قال : من تطابق أسمائكم التي كان يكررها الرّائد عامر يومياً.

نعم الرّائد عامر الأعظمي كان يكرر أسماء السّجناء الثلاثية بسخرية تنكيلا بنا وتخويفا وشتما وتوهينا فيسمعها الآخرون ، مصحوبة بألفاظٍ يجلّ القرّاء عن ذكرها ، وهي ألفاظ  مألوفة لديهم كلّهم ، ابن كذا ، وأمّك كذا ، وأختك كذا ، أبو الكذا ....

حينما سمعت ذلك من الدّكتور «عليّ» طافت بي الذّكريات إلى الطّفولة والحنين والأهل وأنا لا زلت في ريعان الشّباب.. أين ناسي ، أين أخوتي ، أين أهلي ، وماذا حلّ بهاشميّة «والدتي»  ، وماذا ... وماذا...فانهمرت دموعي هتن  كما تنهمر الأمطار .

 والدّكتور كان يواسيني ويثبّتي جزاه الله خيراً، كنت أفكر في العقبات السّود التي تنتظرني ، وأنا أسير عند هؤلاء الذين لم تمرّ في قلوبهم لحظة رحمة من الانسانية ، إنّهم قد مسخهم الله إلى وحوش ضارية ، يتلذذون بتعذيبنا تلذذ السّباع بفرائسها ، أفكر ما هو مصيري ، وما الذي ستؤول إليه حياتي في ظلّ مديرية الأمن العامّة ، ومتى يغلق التحقيق القاسي معي؟ ، ومتى تجفّ جراحاتي من سياط الجلادين ، التي تتراكم عليّ الواحدة تلو الأخرى ، ومتى أعدم ، ومتى ينتهي الرّعب ، ويزول الخوف ولو بالموت؟ . وقد لا تصدّقون أنّ الموت صار لنا أمنية. فأيّ مصير ينتظرنا من وراء هؤلاء ؟ الموت......أم الحياة!!! ، ثمّ أيّ حياةٍ هذه التي نتمناها مع هؤلاء الجلادين ، وكلّ لحظة معهم هي الموت , فيها يستلّون أرواحنا من أجسادنا ، ويجرّعوننا كؤوس المنية ، ويُروننا الموت الزؤام.

وبعد مضي شهرين تقريباً وأنا والدّكتور باقيان في الزّنزانة ، وفي ليلة من اللّيالي اقتاد رجال الأمن مجموعة منّا ، لا يتجاوز عددنا العشرة ، بما فيهم أنا والدّكتور «عليّ» ، وأدخلونا في بيتٍ – عرفت بعد ذلك أنه من البيوت القديمة في حيّ النّضال من بغداد -  جعلوه مقرّ فرعيّا للأمن العامّة ، أوقوفونا باتجاه الجدران ، تكلّم ضابط الشّعبة الخامسة «حذيفة»  بكلامٍ مفاده : «... إنْ لم تعترفوا فسوف يكون مصيركم مصير هؤلاء الخونة الذين سوف نعدمهم أمامكم ، والذين حكمت المحكمة عليهم بالإعدام رميّا بالرّصاص حسب قانون العقوبات البغداديّ ، والأولى لكم أنْ تتخذوا من هؤلاء عبرةً وتعترفوا وتعودوا لعوائلكم » ، وكان هذا هو المقصود من إحضارنا في هذا المكان ، لنشهد إعدام أخواننا بأعيننا لتنهار فينا كلّ عزيمة على الصّمود.

كنت حينها حدثاً لم يتجاوز عمري عن (14) عاما ؛ لذا ارتعدت وانهارت قواي وسقطت أرضاً فأوقفني الجلاد بسياطه وهراواته. وهمس الدّكتور «عليّ» في أذني وأسمعني : «...ولك  لا تخافْ ، ولك خلّي نستشهد ونرتاح ، وصيّر سبع».

في هذه اللّحظات سمعنا هرولة جنود يركضون بشكل هستيري كالذّئاب تطارد فريسة ، ينشرون الخوف ... والقيود تُرمى من أيديهم على الأرض لها صليل يزيده سكون الليل،  وبعد دقائق تعمّد المجرمون أنْ يتشاوروا أمامنا ، ونحن نتابع المشهد ، وقلوبنا تكاد تخرج من أجسادنا ، {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [الأحزاب : 10 ، 11] .

شدّوا شابّين إلى الجدار وقرأ الضّابط «حذيفة» مدير الشّعبة الخامسة شيئاً يشبه قرار المحكمة بإعدامهم وكلي شي عبارة عن مسرحية ، وبعد أنْ أكمل قراءته ، وقف ثلاثة  من رجال الأمن ووجوههم فاقدة لأيّ تعبير عن الحياة ، كانوا هم أنفسهم خائفين ، مخيفين ، {... كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ... }.

[المنافقون : 4].

أطلقوا النارعلى هذين الشّابّين ، فتساقط هذان البريئان, وكنت أشاهد بعيني كيف يمضي الرّصاص في أعماق أجسادهم ، وكيف تناثرت أحشاؤهم وانفجرت جماجمهم ، وكيف شخبت على أثره دماؤهم الطّاهرات ، وكيف تهاوت جثثهم فسقطوا أرضا .

ثمّ بعد أنْ أرعبونا وعذبونا نفسيا أرجعونا إلى زنزاناتنا ، لنقضي ليالي الكوابيس ، وكلّ منّا يتوقّع مصيرا كهذا.

هكذا كان رجال الأمن في عهد صدام ، وهكذا فقدت كلمة «الأمن» معناها الحقيقيّ ، وصارت كأيّ كلمة تدلّ على ضدّها ، ففي ظلّ حكومة البعثيين كان الذي يسمع كلمة «الأمن» عندنا لا يتبادر إلى ذهنه غير القتل والارهاب والإعدام والتعذيب، وإذا قيل لك : جاء رجالُ الأمنِ فمعناه أنّ الأمن قد انعدم ، وشاع الخوفٌ . وصل الشعب العراقيّ إلى حدّ أنّ الأب تنكّر لفلذة كبده فقتله لأنّ ولده قد تخلّف عن الالتحاق بالجيش ، وشاهدنا من خلال شاشة التلفاز أنّ المجرم صداماً يكرّمه على ذلك.

يؤسفني جداً أنّ الذين عاصروا هؤلاء قد سكتوا اليوم عن تدوين التاريخ ؛ ويتعالى صوت النفاق والمجاملات لهم ؛ وكأننا كنّا نحن المجرمون وهم الأبرياء ، وهل يريدون أنْ يصوّروا للأجيال أنّ الأمن في العراق لايستقرّ ما لم يعود أؤلئك المجرمون، لا أبقاني الله ليوم أرى فيه بعثيا على وجه الأرض.

5 / شهر رمضان المبارك 1441

ــــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ...
الموضوع :
انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط
باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ...
الموضوع :
الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس
علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ...
الموضوع :
وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي
الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ...
الموضوع :
حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت.
ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ...
الموضوع :
صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
فيسبوك