المقالات

مقاتلات من الزمن الصعب

2031 2017-02-12

 زيد شحاثة
 يحتفظ الإنسان دوما بذكريات كثيرة, تبقى راسخة في ذهنه فلا تنسى, برغم مرور السنين, وكثرة الأحداث اللاحقة, وتعقيدات الحياة, خصوصا تلك المتعلقة بسنوات حياته الأولى, والتي ترتبط بوالديه وعلاقته معهما.
 كثيرة هي اللحظات التي, تبقى دوما وكأنها, لقطات من شريط سينمائي يعرض, وكأنما الحدث تعيشه الأن, وليس قبل عشرة أو عشرين سنة, ولن تستطيع حينها, أن تمنع إبتسامة, تقفز على شفتيك, أو حسرة تخرج من أعماق قلبك, متمنيا لو عادت تلك الأوقات الجميلة, حيث لا مسؤولية ولا هموم, فهناك من يكفيك عنها.. والديك.
 لأننا كنا أسرة كبيرة, كانت والدتي أطال ربي عمرها بكل خير وعافية, تبذل جهدا كبيرا, لتقوم برعايتنا, ورغم أن لدي أختا, كانت تعينها بما يسمح به عمرها, فحينها كان صبية في الثانية عشرة, وكانت ترعانا نحن إخوتها الأصغر منها, لكني لن أنسى مثلا, منظرها وهي تضع بين يديها, قدرا كبيرا, لتصنع لنا " الكبة" وهي تغالب النعاس, فتتوقف في نصف عملها, لتنام لربع ساعة, ثم تقوم لتكمل عملها.
كنت أتعجب من قدرتها وساعتها البيولوجية الزمنية, فهي كانت تأتي لتوقظني من النوم لكي أذهب لمدرستي, قبل السابعة بقليل, وكانت قبلها قد أيقظت أخي, في الثالثة صباح, والأخر في الرابعة والنصف, والأخر في الخامسة, والأخر ليلتحق بعمله في محافظة أخرى في السادسة, كل ذلك.. دون ساعة توقيت وبين كل تلك المراحل الماراثونية, كان الكل يجد فطوره جاهزا, وتعود هي لتستكمل أعمالها البيتية!
 لم تستطع أن تكمل دراستها, وبالكاد " تفك الخط" كما يقال, لكنها علمتنا, ما هو الحرام, وفرقه عن العيب, وكيف نكون متماسكين, كيف نكون عطوفين على بعضنا والأخرين, كراما على قلة ذات اليد.. كيف نتعامل مع المجتمع, كيف نتسامح.. كانت مدرسة صامته.
 في يوم ما, وعندما كنت طالبا في الكلية, حيث العنفوان, وكنت عصبي الطبع, خرجت مني كلمات عدم رضا, عن ما هيئته أمي, لي من طعام ومتاع أخذه معي, حيث كنت أدرس في محافظة أخرى, كانت كلمة خشنة.. سكتت أمي ولم تجبني بحرف واحد, لكن دموعها نزلت.. أدرت وجهي وخرجت, مشيت خمسة خطوات فقط.. لم أستطع, أن أكمل, عدت لها, قبلت يديها, وأحتضنتها, فأبتسمت باكية.. فبكيت بحضنها, قالت لي بلهجتها النجفية المحببة " روح قلبي وربي راضين عنك" ولكم أن تتصورا, إنهار كل الكبرياء, وعنفوان الشباب الأحمق, قبلت يديها, وأنا أذوب خجلا وتصاغرا, أمام عظمة عاطفتها ورقتها وأمومتها.
 اليوم وبعد أن تجاوزت السبعين من العمر, وهي بالكاد تمشي للوضوء أو للضرورات, وتقضي معظم وقتها, بين سماع الأدعية المعروفة, أو المراثي الحسينية.. لكنها صامدة كمقاتلة, تعرف أن مهمتها أكتملت, لكنها تأبى أن ترمي سلاحها.. فوجودها بين ظهرانينا, هو بركة ومهمة بحد ذاتها.
 مقاتلة صارعت صروف الدهر, وأسوء إمتحاناته.. مقاتلة من الزمن الصعب, لن يسهل تكرارها مرة أخرى.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
زياد مصطفى خالد : احسنت تحليل واقعي ...
الموضوع :
مسرحية ترامب مع زيلنسكي والهدف الامريكي !!
ابو حسنين : انظرو للصوره بتمعن للبطل الدكتور المجاهد والصادق جالس امام سيد الحكمه والمعرفه السيد علي السستاني بكل تواضع ...
الموضوع :
المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني يستقبل الطبيب محمد طاهر أبو رغيف
قتيبة عبد الرسول عبد الدايم الطائي : السلام عليكم اود ان اشكركم اولا على هذا المقال واستذكاركم لشخصيات فذة دفعت حياتها ثمنا لمبادئها التي ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
م خالد الطائي : السلام عليكم, شكرا لصاحب المقال, عمي مالك عبد الدايم الطائي: خريج 1970م، تخرج من كلية العلوم بغداد ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
ام زهراء : مأجورين باىك الله فيكم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
علاء عبد الرزاق الانصاري : الاهم صلي على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
فيسبوك