بعد مرور أسابيع على حادثة اغتيال صفاء المشهداني، عضو مجلس محافظة بغداد والمرشح السابق للانتخابات البرلمانية، لا تزال الأسئلة بلا إجابات، والعدالة بلا إعلان. الجريمة التي وقعت شمال العاصمة، في قضاء الطارمية، لم تهزّ الشارع فحسب، بل فتحت باب الشكوك حول قدرة الدولة العراقية على حماية مسؤوليها وكشف المتورطين في الاغتيالات السياسية.
مصدر حكومي رفيع كشف بعد أيام من اغتيال المشهداني لـ"بغداد اليوم" أن التحقيقات تجري على مستويات عدة، وأن رئاسة الوزراء تتابع تفاصيلها، إلا أن "إعلان النتائج النهائية سيتأخر بسبب تشابك الخيوط، وارتباط بعض الموقوفين بشخصيات نافذة أو جماعات تمتلك غطاءً سياسياً".
في الثالث عشر من تشرين الأول الجاري، استهدف انفجار عبوة ناسفة موكب المشهداني في الطارمية، ما أدى إلى مقتله على الفور. وزارة الداخلية أعلنت لاحقاً "القبض على خمسة متهمين متورطين في الجريمة"، بينما أصدر القضاء بياناً مقتضباً وصف فيه الحادث بأنه "جنائي ناتج عن خلافات محلية تتصل بالتنافس الانتخابي" دون الإشارة إلى هوية المنفذين أو الجهة المحركة.
لكن هذا البيان لم يُقنع الرأي العام ولا عائلة المشهداني، التي أمهلت الحكومة 48 ساعة لكشف الحقيقة، مؤكدة أن الجريمة "عمل إرهابي سياسي بامتياز"، وأن تبريرها كحادث جنائي هو محاولة لتخفيف الضغط الشعبي.
في بغداد والأنبار وصلاح الدين، خرجت شعارات غاضبة في مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم #بروح_بل_دم_نفديك_ياصفاء، مطالبةً الحكومة بالإفصاح عن الجهة المنفذة، ومنددةً بـ"صمت القضاء وهيئة التحقيقات".
الباحث في الشأن الأمني والسياسي محمد علي الحكيم قال لـ"بغداد اليوم" إن "التأخير في إعلان نتائج التحقيق يُضعف ثقة الشارع بمؤسسات الدولة، ويعطي إشارات خطيرة حول جدية مكافحة الإفلات من العقاب".
وأضاف أن "اغتيال المشهداني ليس جريمة جنائية، بل اعتداء على حرية التعبير والحق في الحياة، وتأخر الكشف عن الجناة سيُفهم على أنه تواطؤ أو رضوخ لضغوط سياسية، خصوصاً إذا كانت أطراف نافذة متورطة".
تحليلات أخرى تشير إلى أن التوصيف "الجنائي" الذي قدّمه القضاء العراقي ربما يهدف إلى تهدئة التوترات الطائفية والسياسية في العاصمة، حيث تتداخل مصالح أحزاب وفصائل مسلّحة في مناطق شمال بغداد، خصوصاً في الطارمية التي طالما وُصفت بأنها "هشة أمنياً".
حتى اللحظة، لم تُنشر أي صور رسمية للمتهمين، ولم تُعلن نتائج فحوص المتفجرات أو الاتصالات، وهو ما جعل القضية تدور في دائرة الغموض والإشاعات. مصادر ميدانية أفادت لـ"بغداد اليوم" أن الفيديوهات التي تم تداولها عن "القبض على القتلة" تعود لأحداث سابقة، ما زاد الشكوك حول جدّية التحقيق، في حين أكدت أطراف من داخل وزارة الداخلية أن "هناك جهات تحاول التأثير على مسار التحقيق ومنع الوصول إلى الرؤوس المدبرة".
تتقاطع قضية اغتيال صفاء المشهداني مع نمطٍ مألوف في المشهد العراقي، حيث يتكرر سيناريو الجريمة بلا عقاب. فمنذ عام 2003 وحتى اليوم، وثّقت منظمات دولية ومحلية مئات جرائم الاغتيال التي طالت صحفيين وناشطين وسياسيين ومسؤولين محليين، دون أن يُقدَّم الجناة الحقيقيون إلى العدالة.
تشير تقارير إلى أن نسبة الإفلات من العقاب في العراق تتجاوز 95% من جرائم القتل ذات الدوافع السياسية أو الانتخابية، فيما تظل أغلب الملفات مغلقة تحت توصيف "جنائي مجهول" أو "خلاف شخصي"، وهو توصيف بات يُستخدم كغطاء لتجنّب المساءلة.
ويرى مراقبون أن هذه الحالة لم تعد مجرد ضعف مؤسساتي، بل أصبحت منظومة متكاملة تحمي القوي وتُسكت الضحية، إذ تُفرغ القوانين من مضمونها بفعل الضغوط السياسية وتوازنات النفوذ، حتى صار كشف القتلة استثناءً لا قاعدة.
ويؤكد خبراء أن غياب المحاسبة في جرائم كهذه يرسّخ شعوراً عاماً بأن "العدالة انتقائية"، وأن الدولة تتراجع أمام نفوذ القوى التي تمتلك سلاحاً أو تمويلاً أو غطاءً سياسياً، ما يخلق بيئة خصبة لتكرار الاغتيالات كلما اقتربت البلاد من استحقاق انتخابي أو صراع نفوذ.
اغتيال صفاء المشهداني لم يكن مجرد حادثة أمنية، بل مرآة لعمق الأزمة العراقية: تداخل الأمن بالسياسة، وتراجع الثقة بالقضاء، وعجز الدولة عن حماية حتى من يمثلها. ففي بلد ما زال يعيش إرث الاغتيالات السياسية منذ 2003، يُنظر اليوم إلى ملف المشهداني على أنه مؤشر لقياس مدى استقلال القرار الأمني عن الحسابات الحزبية. ومع مرور الأيام دون نتائج حاسمة، يبقى السؤال الأهم معلقاً: هل ستنتصر الدولة للعدالة، أم تصمت مجدداً أمام سطوة النفوذ؟
https://telegram.me/buratha

