يتكشف في العراق مشهد رقمي فوضوي، يتصدّره جيل ينشأ بين شاشتين؛ هاتف صغير يمنحه المتعة اللحظية، وقرارات حكومية تحاول كبح اندفاعه نحو ألعاب لم تعد مجرد تسلية بل سلوك اجتماعي موازٍ للواقع. وبينما تتداول مؤسسات الدولة فكرة الحظر الشامل لألعاب مثل “بوبجي” و“فورتنايت” و“روبلوكس”، يتحدث المختصون بلغة أخرى: الإصلاح من الداخل لا المنع من الخارج.
في مقدمة هؤلاء، علي العبادي، رئيس مركز العراق لحقوق الإنسان، الذي يرى أن الظاهرة تتجاوز حدود اللعبة إلى بنية ثقافية كاملة فقدت أدوات الرقابة والتربية الرقمية. يقول العبادي لـ"بغداد اليوم": “الألعاب الإلكترونية ليست خطرًا بحد ذاتها، بل في غياب الوعي والاستخدام الرشيد. الحظر الكامل لا يصنع مجتمعًا واعيًا، بل يدفع المستخدمين إلى تجاوز المنع بطرق أخرى. الحل الحقيقي هو التثقيف والرقابة الذكية، لا المقص الإلكتروني.”
يُصرّ العبادي على أن “الدولة لا يمكنها إغلاق الإنترنت لكنها تستطيع تقنين السلوك”، لافتًا إلى أن التجارب الأوروبية والآسيوية أثبتت أن معالجة الظاهرة تتم عبر تقييد الاستخدام وتوجيه المحتوى، لا عبر قرارات المنع الكلي التي تعيد إنتاج المشكلة بأشكال أخرى.
لكن في خلفية الصورة الاجتماعية، يظهر فالح القريشي، المختص في علم النفس، متحدثًا عن تحول “الطفل العراقي” من كائن اجتماعي إلى كائن افتراضي. يقول في حديثه لـ"بغداد اليوم": “نحن أمام جيل يعاني ما يسمى بإدمان الشاشات، وهي حالة نفسية تماثل الإدمان الكيميائي. الدماغ يفرز هرمونات المتعة كما لو أنه يتعامل مع مادة مخدّرة، فيدخل الطفل في دائرة قلق وتوتر وعزلة اجتماعية.”
القريشي يربط بين الاستخدام المفرط وفقدان المهارات التعليمية، موضحًا أن “الطفل الذي يقضي ست ساعات يوميًا أمام الشاشة يفقد مهارة التركيز ويتراجع تحصيله الدراسي تدريجيًا”، مضيفًا أن “الأخطر هو أن العزلة الافتراضية تحوّل التفاعل الإنساني إلى تفاعل مبرمج، وتُضعف قدرته على بناء علاقات حقيقية”.
ومع تصاعد الأصوات العلمية، يبرز فاضل الغراوي، رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، بخطاب أكثر حزمًا. يرى الغراوي أن اللعبة الأكثر انتشارًا، “روبلوكس”، باتت منصة مفتوحة بلا رقابة أخلاقية: “اللعبة تجمع 85 مليون مستخدم يوميًا، 40% منهم دون الثالثة عشرة. كثير من الأطفال يتعرضون لمحتويات عنف وجنس، بل لتواصل مباشر مع غرباء بالغين، وهذا ما يجعلها بيئة خصبة للتحرش والاستغلال.”
يشير الغراوي إلى أن دولًا كالصين وقطر والكويت حظرت المنصة بالكامل بعد تسجيل حالات استدراج وابتزاز عبرها، مؤكدًا أن “الأمن الاجتماعي لا يقلّ أهمية عن الأمن السياسي، وعلى الدولة أن تضع تشريعات تحمي الطفولة من الاقتصاد الرقمي الفوضوي”.
وكان مساعد وكيل وزارة الداخلية لشؤون الشرطة، منصور علي، قد أكد في تصريحات صحفية، تابعتها "بغداد اليوم"، إن “الوزارة باشرت بخطوات تنفيذية لحظر ألعاب (بوبجي) و(فورتنايت) و(روبلوكس)، استنادًا إلى القانون رقم 2 لسنة 2013 الذي يجرّم الألعاب المشجّعة على العنف ويعدّها تهديدًا للأمن الاجتماعي”، مبينًا أن “اللجنة الوطنية الدائمة لتنظيم الأسلحة بدأت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية ووزارة التجارة لمصادرة المواد الإلكترونية والنارية المحرّضة على السلوك العدواني”.
وأضاف علي أن “الحظر المقبل يستهدف تقليص التأثير السلبي لتلك الألعاب التي تهدر وقت الأطفال والمراهقين وتشكّل خطرًا على سلامتهم النفسية والاجتماعية”، مشيرًا إلى أن “العام الماضي شهد مصادرة أكثر من طن من المواد الممنوعة، فيما تجاوزت الكميات خلال العام الحالي خمسة أطنان نتيجة التوسع في المراقبة والملاحقة”.
في الميدان السياسي، تتلاقى المخاوف الحقوقية مع الحراك التشريعي؛ إذ أعلنت سميعة غلاب، رئيسة لجنة الثقافة والإعلام النيابية، عن تقديم مقترح قرار لمجلس النواب لحظر الألعاب الإلكترونية المحرّضة على العنف، استنادًا إلى المادة (59) من الدستور. تقول في بيان تلقته "بغداد اليوم": “اللجنة رصدت اتساع ظاهرة الألعاب الإلكترونية التي تثير العنف وتؤثر على المستوى الاجتماعي والنفسي، ورفعت مقترحًا ملزمًا للحكومة يتضمن حجب الألعاب المضرّة واتخاذ إجراءات فنية عاجلة.”
ويقرأ مراقبون هذه الخطوة باعتبارها محاولة لـ"ضبط المجال الافتراضي" بعد أن أصبح فضاءً مفتوحًا لتشكيل الوعي الجمعي بلا رقابة. ويرون أن التشريع إذا لم يُرفق بسياسة تربوية وإعلامية، سيتحول إلى إجراء عقيم: “الحظر سهل، لكن بناء ثقافة رقمية يحتاج سنوات. المطلوب هو أن يتعلم الطفل كيف يستخدم التقنية بوعي، لا أن نمنعه منها.
يتقاطع في هذا الملف بُعدان أساسيان: الخطر التربوي والفراغ التشريعي. فالدولة تخشى الانفلات السلوكي، والمجتمع يخاف سلطة الحجب، فيما يبقى الطفل بين هذين الطرفين. تشير التقديرات البحثية إلى أن أكثر من 60% من أطفال العراق يقضون أكثر من أربع ساعات يوميًا أمام الشاشات، وهو رقم يتضاعف في غياب النشاط المدرسي والبدائل الثقافية.
يرى محللون أن ما يجري ليس مجرد نقاش حول ألعاب، بل اختبار لقدرة العراق على إدارة “التحول الرقمي الاجتماعي” القادم. فالإدمان على الشاشات لا يُعالج بالمصادرة، بل ببناء وعي مجتمعي قادر على الفصل بين الاستخدام والترفيه، بين الواقع والافتراض.
وتبقى المفارقة أن الجيل الذي خُلِق في عالم رقمي لا يمكن إعادته إلى الوراء، لذا فإن المعركة ليست ضد الألعاب، بل من أجل ترشيدها. فالحظر قد يُغلق نافذة، لكن التوعية تفتح بابًا نحو تربية رقمية واعية تحفظ الطفولة وتؤسس لمواطنة رقمية جديدة.
https://telegram.me/buratha
