في مشهد سياسي فريد ومثير للتساؤلات، أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أن عدد الأحزاب المجازة رسميًا في العراق بلغ 343 حزبًا، وهو رقم يتجاوز عدد مقاعد مجلس النواب العراقي البالغة 329. هذه المفارقة الرقمية لم تعد مجرد نكتة متداولة بين المتابعين، بل صارت عنوانًا لأزمة حقيقية في بنية النظام التعددي، تعكس هشاشة التمثيل، وفراغ المحتوى السياسي، وتآكل المعنى الحقيقي لفكرة "الحزب" في العراق بعد 2003
أرقام تفوق المنطق: أحزاب أكثر من الكراسي
بحسب بيان المفوضية ، فإن عدد الأحزاب المجازة بلغ 343، فيما هناك 60 حزبًا إضافيًا قيد التأسيس، أي أن البلاد قد تكون قريبًا على موعد مع أكثر من 400 حزب، إذا اكتملت إجراءات التراخيص. ورغم هذا الزخم، لم يُبدِ الرغبة بالمشاركة في الانتخابات سوى 118 حزبًا فقط، ما يعني أن أكثر من ثلثي الأحزاب المسجلة غير فاعلة سياسيًا، أو ربما أن وجودها لا يتعدى الورق والختم.
أما على مستوى التحالفات، فقد شهدت الانتخابات السابقة تسجيل 66 تحالفًا، بينما لم يحصل على المصادقة حتى الآن سوى 5 تحالفات جديدة، في حين أن 11 تحالفًا بانتظار قرار مجلس المفوضين، وقد أبدت 25 منها فقط رغبتها في خوض الانتخابات، إلى جانب 16 قائمة منفردة.
فوضى الكيانات... بين الحق الدستوري والعبث الانتخابي
تكشف هذه الأرقام حجم الفوضى التي باتت تهيمن على المشهد الحزبي العراقي، حيث لم يعد تأسيس الأحزاب يخضع لأي معايير فكرية أو برنامجية أو حتى تنظيمية. بل تحول في كثير من الأحيان إلى مشروع شخصي أو عائلي أو جهوي، يستخدم كأداة للحصول على التمويل الانتخابي، أو لابتزاز الكتل الأكبر في صفقات ما قبل التحالفات.
وبدلاً من أن تعبّر هذه الأحزاب عن انقسام اجتماعي أو تنوع سياسي مشروع، باتت تمثّل تجزئة مصطنعة للمجتمع، تُضعف من فرص تشكّل معارضة حقيقية، وتُعقّد من مهمة بناء أغلبية حاكمة أو معارضة فاعلة. فالنظام الانتخابي القائم يعيد إنتاج كيانات هشة، تفرز برلمانًا ممزقًا بين قوى لا يجمع بينها سوى الصراع على النفوذ.
أحزاب بلا جمهور... وقوائم بلا برامج
الواقع أن أغلب هذه الأحزاب لا تمتلك قاعدة جماهيرية تذكر، ولا مكاتب فاعلة، ولا خطابًا سياسيًا متميزًا. ومع ذلك، تدخل المنافسة الانتخابية ضمن ما يشبه "المزاد العلني" على أصوات الناخبين، مستفيدة من ضبابية القانون، وتوزيع المقاعد وفق نظام الدوائر المتعددة الذي يتيح الفوز حتى لأضعف المرشحين إذا توفرت له كتلة تصويتية ضيقة.
وتكمن الخطورة في أن هذه الأحزاب غالبًا ما تتحول إلى أدوات صامتة داخل البرلمان، تفتقر للموقف، ولا تملك مشروعًا، بل تكتفي بمناورة البقاء والتفاوض خلف الكواليس. وهو ما يُفرغ السلطة التشريعية من محتواها الرقابي، ويحوّلها إلى منتدى لتبادل المصالح.
ما بعد التضخم الحزبي... إلى أين يتجه النظام السياسي؟
يضع هذا الواقع المفوضية، والمجتمع، والنخب السياسية أمام تحدٍّ مصيري: هل نحن أمام نظام ديمقراطي حيوي يعكس تنوع الرأي، أم أمام حالة من الانفجار الشكلاني الذي يخنق المؤسسات بدل أن ينعشها؟
إن استمرار هذا المسار يُنذر ببرلمان أكثر تشتتًا، وحكومة أضعف، ومعارضة أكثر ضجيجًا من الفعل. وإذا لم تُعاد صياغة قانون الأحزاب بمعايير أكثر صرامة، وإقرار نظام انتخابي يحد من التشرذم، فإن الديمقراطية العراقية ماضية في طريق التآكل، لا التراكم.
https://telegram.me/buratha
