الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
من الواضح أن بوتين بعث برسائل مهمة وخطيرة عبر هذا الكشف إلى دول إقليمية تدعم الإرهاب، وتستخدمه. ورسائل أخرى إلى دول كبرى تمارس نفس الشيء، ولا تتورع عن استخدام الإرهاب واستثمار نتائجه. كل ذلك على أرضية دعوة موسكو إلى إيجاد أشكال أكثر فاعلية للتعاون في مكافحة الإرهاب الذي أصبح يهدد مصالح الدول ومواطنيها، ويخلط الأوراق ويثير الشكوك بين الدول الكبرى التي يجب أن تقف بالفعل وقفة حقيقية ومنهجية ضد هذا الخطر.
بوتين قال في أعقاب مشاركته في قمة العشرين، إنه قدم لنظرائه معلومات عن قنوات تمويل الإرهاب، وعرض عليهم صورًا فضائية تُظهر أبعاد اتجار داعش بالنفط. وهو الأمر الذي بح صوت روسيا فيه خلال العامين الأخيرين لتنبيه كل دول العالم، سواء الدول التي تشتري النفط من داعش أو التي توفر له الأمن في نقل النفط وتنقل آلياته ومستودعاته وناقلاته، وتضمن له وصول مستحقاته المالية والعسكرية.
لقد أعلن بوتين أن تفجير طائرة الركاب الروسية فوق سيناء هو من ضمن الأعمال الإرهابية الأكثر دموية في تاريخ روسيا. وقال: "إننا لن نستطيع أن نمسح الدموع عن أرواحنا وقلوبنا وسيظل ذلك معنا، ولكنه لن يَحُول دون العثور على المجرمين ومعاقبتهم".
هذا التصريح يذكرنا جيدًا بتصريحات السلطات الروسية أثناء حربها ضد الإرهاب في شمال القوقاز، والتي استمرت طوال حوالي عشر سنوات عبر حربين متتاليتين. يذكرنا جيدًا بمآسي مدرسة بيسلان، ومسرح دوبروفكا، ومستشفى بوديونفسك، وعشرات الأحداث المأساوية التي طالت روسيا، بينما كان الدعم المالي والسياسي، والسلاح والكوادر، تأتي من الغرب والشرق لإقامة "الدولة الإسلامية" في شمال القوقاز، في الوقت الذي كان فيه الغرب يتحدث عن "ضرورة إقامة دولة إسلامية مستقلة ذات سيادة"!
بوتين- في اجتماعه الأمني بالكرملين- بعث برسائل متزنة، ولكنها صارمة إلى الجميع، مشددًا على أن روسيا ستجد الإرهابيين الذين قاموا بتفجير الطائرة الروسية في أي مكان في العالم وستعاقبهم. ومن الواضح أن القيادة الروسية لا تزال عند التزامها بعدم الانزلاق إلى الأمور الفرعية والهامشية وخلط الأوراق وإلقاء التهم والاتهامات. إذ أوعز بوتين إلى جهاز الاستخبارات بالتركيز على البحث عن المتورطين في تفجير الطائرة، محذرًا في الوقت نفسه جميع الذين سيحاولون مساعدة الإرهابيين من أنهم سيتحملون كامل المسئولية عن نتائج ذلك. وتوعَّد المسئولين عن التفجير وملاحقتهم في أي مكان على سطح الأرض.
لا أحد يعرف ماذا دار بالضبط في اللقاء القصير الذي جمع بين الرئيسين الروسي بوتين ونظيره الأمريكي أوباما في أنطاليا التركية. وإذا كان الموضوع السوري هو الذي سيطر على لقاءات قمة العشرين الأخيرة، فمن الصعب فصل هذا الموضوع عن ملف الإرهاب الدولي، خاصة وأنه خلال أسبوعين فقط وقعت ثلاثة أحداث مأساوية في مصر ولبنان وفرنسا، على الترتيب. وقد يكون لنوعية الكارثة التي وقعت في مصر أهمية خاصة؛ لأنها ترتبط بشكل مباشر بطائرة روسية، وضحايا كلهم من الروس البالغ عددهم 224 شخصًا، بمن فيهم 7 من طاقم الطائرة، إضافة إلى التهديدات المتوالية من تنظيم داعش الإرهابي وغيره من تلك التنظيمات للجانب الروسي، ومحاولات دول التحالف الأمريكي التملص من مواجهة ما يجري على أرض الواقع بخلط الأوراق وإثارة الخلافات للهروب من القضايا الجوهرية التي تؤرق الجميع وتهدد مصالحهم.
ستنتقل التكهنات والتحليلات إلى مستوى آخر إعلاميًّا وسياسيًّا. وستتواصل عمليات التبرير وإلقاء الاتهامات، وفقًا للمصالح والتوجهات. ومع ذلك، وكما رأينا في التصريحات المقتضبة والصارمة لبوتين: ستلتزم موسكو بهدوئها واتزانها، ولن تنجر إلى أمور فرعية. وهو الأمر الذي يعكس مصداقية روسيا في مكافحة الإرهاب وبُعْد نظرها في التعامل مع القضايا التي تتعلق بمستقبل الإنسانية.
بعد أحداث باريس، أطاحت السلطات الفرنسية بكل مبادئها المعلنة بشأن حرية الكلمة والحريات الشخصية، ورفعت حالة الطوارئ، وأغلقت حدود البلاد، وأوقفت عمل المدارس وأماكن التجمعات العامة. هذا ليس تبريرا للقمع أو تقييد الحريات، بقدر ما يمثل أحد الإجراءات المؤقتة لمواجهة نوعية معينة من الأخطار. وربما تكون باريس قد وصلت أخيرًا إلى جوهر "الدرس" القاسي.
فهناك أنباء تتحدث عن لقاءين سيقوم بهما الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند مع كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي باراك أوباما. وهناك أمل كبير لدى جميع الأطراف بأن يتم الاتفاق على آليات معينة لمكافحة الإرهاب بما يتناسب وحجم الأخطار التي تواجه جميع دول العالم، بما فيها تلك الدول التي أشار إليها بوتين في حديثه عن دعم الإرهاب أو تمويله أو توجيهه واستخدامه.
الأمر الآخر الأكثر أهمية أن الكرملين أعلن أن روسيا لن تقوم بأي عمليات برية في سوريا. هذا الإعلان الواضح يأتي ردًّا على المزايدات الإعلامية الرخيصة، التي ترى في نشاطات التحالف الأمريكي في سوريا والعراق إجراء شرعيًّا، بينما نشاطات روسيا في سوريا "احتلال" روسي للأراضي السورية. وفي الحقيقة، فقد أعلنت الولايات المتحدة أنها لن تقوم بأي عمليات برية في سوريا، تفاديا لوصف ذلك بالاحتلال. أي أن جميع الأطراف متفقة ضمنًا وعلنًا بعدم التدخل البري، في الوقت الذي تسعى فيه أطراف أخرى لصب الزيت على النار، وتصعيد الأوضاع في سوريا والعراق ومصر وليبيا، وتدعو إلى إجراءات غير مسئولة قد لا تستطيع هي نفسها القيام بها.
إننا نلاحظ أن التصريحات الروسية لم توجه أي اتهامات لدول بعينها. هذا انطلاقًا من مواقف مسئولة ورؤية أبعد بكثير من الرؤى التآمرية. تم الاكتفاء فقط بعرض الحقائق والمخاطر والتهديدات على الأرض. وهي رسائل مهمة للإرهابيين، ولمن يقفون وراءهم، ومن يدعمونهم بمختلف الوسائل، ومن يستخدمونهم ويوجهونهم، ويستثمرون نشاطاتهم. هذه الملاحظة كافية للتعقل والتعامل برؤية واضحة مع الأمور تفاديا لتضليل الرأي العام، وتصفية الحسابات قصيرة النظر. فالحرب ضد الإرهاب ليست مجرد نزهة، أو مكايدة طرف لطرف آخر، حتى وإن كانت هناك أجهزة استخبارات عدة متورطة فيها.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha

