جاء في کتاب بحوث فقهية حول الذبح بغير الحديد والزي والتجمل ومسائل أخرى للسيد محمد رضا السيستاني: قولهم: (لسانٌ حادٌّ)، قال السيد الرضي في قوله تعالى: "سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ" (الأحزاب 19) وصف الألسنة بالحدّة محض استعارةٍ تشبيهاً لها بمضارب الصفاح ولَها ذمّ الرماح لشدّة وخزها في القلوب وحزّها في الجنوب . قولهم: (بصرٌ حديد)، قال السيد الرضي في قوله تعالى: "فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" (ق 22) وهذه استعارة والمراد ما يراه الإنسان عند زوال التكليف عنه في أعلام الساعة واشتراط القيامة فيصدّق بما كذّب ويقرّ بما جَحد ويكون كأنه قد نفذ بصره بعد وقوف، وأُحدّ بعد كلال ونبوّ، فهذا معنى قوله سبحانه: "فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" (ق 22) . قوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ" (المائدة 3) . فإن مقتضى إطلاق قوله: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ" (المائدة 3) الدال على حليّة المذكّى عدم اعتبار كل ما يشكّ شرعاً في التذكية، نظير ما ذكروه في قوله تعالى: "وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ" (البقرة 275) حيث تمسّكوا بإطلاقه لنفي ما يحتمل اعتباره شرعاً في صحّة البيع زائداً على ما يُعتبر فيها عُرفاً. ولكن ناقش السيد الأستاذ قدّس سره الشريف في ذلك بأن التذكية ليس أمراً عُرفياً كي ينزل الدليل عليه ويدفع احتمال التقييد بالإطلاق كما كان الأمر كذلك في مثل قوله تعالى "وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ" (البقرة 275) فلا مجال للتمسّك بالآية الكريمة في نفي الشرط المشكوك اعتباره في التذكية الشرعية. إن التذكية اسم للذبح وما بحكمه بشروطه الشرعية من التسمية وغيرها، وينسجم هذا مع قول الخليل: (التذكية في الصيد والذبح: إذا ذكرت اسم الله وذبحته، ومنه قوله تعالى: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ") (المائدة 3). هذه هي أهم الوجوه والأقوال في حقيقة التذكية، والتمسّك بإطلاق الآية الكريمة لنفي اعتبار كون آلة الذبح من جنس الحديد مبني على الالتزام بأحد الوجهين الأول والثالث في تفسير قوله تعالى: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ" (المائدة 3).
ويستطرد السيد السيستاني حفظه الله في كتابه عن التذكية قائلا: إن قوله تعالى: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ" (المائدة 3) استثناء عن: "وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ" (المائدة 3) أو عن جميع المذكورات قبله مما عرضت فيها للحيوان علّة تؤدّي إلى هلاكه لو تُرك على حاله وهي المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة، ومفاد الاستثناء بيان حليّة لحم المذكورات لو تمّ إنهاء حياتها وإتمام أمرها على يد الشخص في مقابل ما إذا تُركت على حالها حتّى أتلفها الانخناق أو الوقذ أو التردّي أو النطح فكأنّه تعالى قال: المنخنقة حرام إذا أدى الانخناق إلى موتها وأما إذا أتممتم أمرها فلا بأس بلحمها، وكذلك الموقوذة وهي التي أنهكها المرض؛ والمتردّية وهي التي وقعت من شاهق؛ والنطيحة وهي التي أُصيبت في التناطح مع حيوان آخر؛ وما افترسه السبع، فإن حرمة الجميع تختصّ بما إذا أدّى العارض إلى موتها؛ وأما إذا أدركها الشخص قبل أن تزهق روحها فقام بإنهاء حياتها بحيث انتسب ذلك إليه فلا تحرم. والعناية في استخدام التذكية بمعنى الإتمام في الآية الكريمة هو في الإيعاز إلى أن الموت كأنه بدأ في المذكورات بما أصيبت به من العوارض، فالذبح مثلاً يتمّ ما شرع فيه عامل آخر، فليس هو العلّة التامّة في زهاق روح الحيوان. ربما يقال أن هذا لا ينسجم مع ما اتفق عليه الفريقان من أن الآية الكريمة المشتملة على قوله: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ" (المائدة 3) قد نزلت في حجّة الوداع أي في الشهور الأخيرة من حياة النبي الأعظمصلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن يمكن الجواب عنه بأن القدر الثابت هو أن مقطعاً من تلك الآية المباركة وهو قوله: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" (المائدة 3) قد نزل في حجّة الوداع إما في يوم عرفة كما قال به كثير من الجمهور أو في يوم الغدير كما هو رأي الإمامية، وأما المقطع الأول والأخير من الآية فلم يثبت نزوله في حجّة الوداع (لاحظ الميزان ج5 ص167) ، أما كون سورة المائدة بأسرها من آخر ما نزل من القرآن فهو لا ينافي ما ذُكر، مضافاً إلى أن مضمون تلك الآية الكريمة المشتمل على تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة وغيرها من مأكولات العرب في الجاهلية لا يناسب أن يكون من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن فلاحظ. وكيف كان فقد تحصّل من جميع ما تقدّم أنه مع الشكّ في اعتبار كون آلة الذبح من جنس الحديد يمكن نفي اشتراطه بإطلاق قوله تعالى: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ" (المائدة 3) ومع التنزّل عنه فالمرجع أصالة الحلّ والإباحة. إنه لو فُرض الشكّ في اعتبار أن تكون آلة الذباحة من جنس الحديد فبالإمكان الرجوع إلى إطلاق الآية الكريمة: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ" (المائدة 3) لنفي اعتباره، ومع غضّ النظر عنها فالمرجع أصالة الحلّ والإباحة وأما أصالة عدم التذكية فلا مجال لها لعدم إحراز ما هو موضوع الحكم بحرمة الأكل. هذا لو لم يكن الشكّ المذكور ناشئاً من إجمال النصوص وتردّد المعنى المراد من لفظ الحديد بين معنيين متباينين، وإلاّ ـ كما هو المفروض ـ فلا مجال للرجوع إلى إطلاق الآية المباركة ولا إلى أصالة الحلّ والإباحة بل يلزم رعاية الاحتياط.
وعن علاقة الحديد بالتذكية يقول السيد محمد رضا السيستاني: إن قوله تعالى: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ" (المائدة 3) مطلق من جهة كون آلة الذبح من جنس الحديد وعدمه، فما دلّ على عدم جواز التذكية بغير الحديد بمنزلة المقيّد المنفصل لإطلاق الآية الكريمة، فإذا شُكّ في صدق الحديد على ما فقد خاصّة عدم التصدأ اندرج ذلك في الشبهة المفهوميّة للمخصّص المنفصل مع دوران الأمر فيها بين الأقل والأكثر، ومن المحقّق في محلّه من علم الأُصول جواز الرجوع إلى العام في مورد الشكّ من ذلك لكونه شكًّا في التخصيص الزائد فإن خروج ما يُعلم عدم صدق الحديد عليه من إطلاق الآية الكريمة معلوم، وأما ما يُشكّ في صدقه عليه فخروجه مشكوكٌ فيه فالمرجع هو أصالة الإطلاق. (أقول): جواز الرجوع إلى العام في الشبهة المفهوميّة الدائرة بين الأقل والأكثر للمخصّص المنفصل الوارد بلسان التفسير للعام وتوضيح المراد منه لا يخلو عن إشكال ـ كما أوضحته في موضعٍ آخر من هذه الرسالة والمقام من هذا القبيل، فإن قوله: (لا ذكاة إلا بالحديدة) ناظر إلى قوله تعالى: "إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ" (المائدة 3) وبصدد تحديد المراد منه فيشكل الرجوع إلى إطلاقه في مورد الشكّ في كون الآلة من جنس الحديد على نحو الشبهة المفهوميّة.
https://telegram.me/buratha
