المقالات

مفهومُ الدّولةِ المدنيّةِ في الفكرِ الإسلاميّ الشّيعيّ 

2441 2021-12-22

  أ.د. عليّ الدّلفيّ ||

 

إنَّ مفهومَ الدّولةِ المدنيّةِ في ضوءِ النّظرِ الإسلاميّ الشّيعيّ مُحْتَشِدٌ في الخطابِ القرآنيّ العظيمِ مركزِ الثّقافةِ العربيّةِ والاسلاميّةِ وقُطُبِ رحىٰ الدّينِ والأصلِ الأوّلِ للتشريعِ ولا يجوزُ مخالفةُ نصوصهِ وأحكامهِ. وَقَدْ أشارَ القرآنُ بوضوحٍ للدولةِ المدنيّةِ وهي نفسها "الدّولة الإسلاميّة"؛ إنْ صحَّ التّعبير؛ إذْ لا نجدُ في كلِّ نصوصِ القرآنِ الكريمِ خلافًا لفظيًّا أو معنويًّا أو سياقيًّا أو نصيًّا بينَ مفهومِ "المدنيّةِ" و"الإسلاميّة"؛ بل نجدُ ترتيبًا خفيًّا وانسجامًا كبيرًا بين آياتهِ. ويبقى السّياقُ القرآنيُّ المعيارَ الأهمَّ في تحديدِ المفهومِ والمعنى وكشفِ ما أُضمرَ منهما؛ وَقَدْ حاولتْ مناهج "ما بعد الحداثة" الغربيّة كـ"التّفكيكيّة؛ والتّشكيكيّة؛ والعدميّة؛ واللادينيّة؛ واللاأدريّة؛ واللاهوتيّة الغربيّة؛ والإلحاديّة المُتطرّفة؛ والنّقديّة الثّقافيّة المؤدلجة؛ .." أنْ تفكّكَ النّصَّ القرآنيّ وتبعثرهُ بعيدًا عن حقيقتهِ اللِّسانيّةِ وتاريخيتهِ النّقليّةِ؛ ولكنّها؛ في الأخيرِ؛ فشلتْ فشلًا جسيمًا وخسرتْ خسرانًا كبيرًا وخابَ سعيها.  وبما أنَّ مقتضىٰ الحالِ وسياقَ المقامِ لا يسعا التّفصيل؛ فلن أُطيلَ الكلامَ في إثباتِ الحقائقِ الثلاثِ الآتيةِ: أوّلًا: حقيقةُ تبنّي القرآنِ الكريم لمفهومِ "المدنيّةِ". ثانيًا: حقيقةُ تماهي السّياسةِ مع الدّينِ الإسلاميّ في ضوءِ النّصوصِ القرآنيّةِ. ثالثًا: حقيقةُ (لا أصل في القرآنِ الكريمِ لمفهومِ فصلِ الدّينِ عن السّياسةِ). سأعتمدُ في إثباتِ هذهِ الحقائقِ علىٰ ما قالهُ السّيّدُ مُحمّد باقر السِّيستانيّ وأسردُ بعضًا ممّا كتبهُ في كتابهِ القيّمِ (اتجاه الدّين في مناحي الحياة)(٢)؛ إذْ رأىٰ أنَّ "الدِّينَ" يشتملُ علىٰ مبادئٍ حكيمةٍ وتعليماتٍ معقولةٍ تناسبُ الحقائقَ الكبرىٰ التي جاءَ بها من جهةٍ؛ وتستجيبُ لحاجاتِ الإنسانِ من جهةٍ أخرىٰ. وهذهِ التّعاليم في مناحي حياةِ الإنسانِ جزءٌ لا يتجزأ من مضمونِ الدِّين... .  إنِّ سماحةَ السَّيِّدِ تحدّثَ في كتابهِ (اتجاه الدِّين في مناحي الحياة) عن:   الدِّين والعقلانية العامة الدِّين والعلم الدِّين والإلهام الدِّين والحكمة الدِّين والأخلاق الدِّين والإيمان الدِّين والعدالة الدِّين والأبعاد الروحيّة للإنسان الدِّين والسّعادة الدِّين والحرية الشّخصيّة الدِّين والقانون  الدِّين والسِّياسة  الدِّين والمعاصرة وقسّمه علىٰ أربعة أقسام: الدِّين والعقلانيّة المعاصرة الدِّين والعلوم المعاصرة الدِّين والأخلاقيّات المعاصرة الدِّين والتّقنين المعاصر وَقَدْ فصّلَ السَّيِّدُ القولَ في حديثهِ عن هذهِ الموضوعاتِ جميعًا في ضوءِ القرآنِ العظيمِ ومن وجهةِ نظرٍ اجتماعيّةٍ عصريّةٍ. ومن يقرأُ الكتابَ سيعلمُ مدىٰ العلاقةِ بينَ الدِّينِ والحياةِ بعمومها والمدنيّة جزء بسيط منها؛ كما أنّه أشارَ بوضوحٍ إلىٰ مدىٰ العلاقةِ بينَ الدِّينِ والسِّياسةِ.   لَقَدْ تحدّثَ السَّيِّدُ محمّد باقر السِّيستانيّ في محور (الدِّين والسِّياسة) عن شؤونٍ ثلاثةٍ هي: (الشّأن التّشريعيّ؛ والشّأن التّنفيذيّ؛ والشّأن القضائيّ). وقسّم التّشريعيّ علىٰ أقسامٍ... . وسلّط الضوءَ علىٰ الشّأنِ التّنفيذيّ باعتبارهِ الأقربَ لمصطلحِ "الدّولةِ المدنيّةِ" من وجهةِ نظرٍ إسلاميّةٍ. وَقَدْ أثبتَ في صدرِ حديثهِ أنَّ من يثبت له الحقّ في التّنفيذِ علىٰ وفقِ القانونِ الفطريّ والمذاقِ العقلانيّ العامّ هو "اللهُ" تعالىٰ . ثُمَّ فصّل القول في مَنْ يحقّ له من الناس أنْ يتصدّى للتنفيذ؛ وَقَدْ ذكر أنّ التّشخيصَ لا الاختيارَ لا علىٰ سبيلِ الاختيارِ الشّخصيّ؛ ولهذا قالتِ المرجعيّةُ في مناسباتٍ عديدةٍ قبلَ الانتخاباتِ السّابقةِ والتي سبقتها (عليكم بالأصلحِ والأنزهِ والأكفأِ والأفضلِ والأحسنِ)؛ وهذا مبدأٌ تشخيصيٌّ (مدنيّ) وفي أصلهِ (دِينيّ). ثُمَّ تحدّثَ عن الحاكمِ والانتخابِ؛ ثُمَّ بعد ذلكَ تحدّثَ عن مسؤوليّةِ المجتمعِ في تمكينِ الحاكمِ المنصوبِ. وهو (مبدأٌ دينيٌّ في أساسهِ تمّ تطويرهُ ليكونَ مبدأً مدنيًّا). وأسردَ نصوصًا قرآنيّةً كثيرةً وأقوالَ أمير المؤمنين (ع) بهذا الشّأنِ؛  ومنَ الجديرِ بالذّكرِ أنَّ أوّلَ من أسّسَ مفهومًا مدنيًّا لبناءِ أسسِ "الدّولةِ المدنيّةِ" هو أميرُ المؤمنينِ الإمامُ عليّ بن أبي طالب (ع)؛ وذلكَ عندما رفضَ السّعيَ في التّصدّي بعدَ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لأنَّه وجدَ أنَّ المجتمعَ "المهاجرينَ والأنصارَ" أعرضوا عنهُ رغمَ تعيينهِ فتركَ الأمرَ؛ ثُمَّ الإمام الحسن (ع) عندما وجدَ أنَّ المسلمينَ سَئِموا الحروبَ.    وإنَّ خيرَ ما يمثّلُ الحياةُ المدنيّةُ في الدِّينِ هي الحرّيّة الشّخصيّة؛ فَقَدْ فصّلَ السَّيِّدُ مُحمّد باقر السِّيستانيّ الكلامَ في هذا الموضوعِ وتناولَ حدودَ الحرّيّةِ وأنواعها؛ والنّظرةَ الجامعةَ للحرّيّةِ؛ ومحدوديّةَ المستوى الفطريّ منَ الحرّيّةِ؛ وتحديدَ الحرّيّةِ بحقوقِ الآخرين وتحديدها بمقتضىٰ الحكمةِ وتحديدات متوهمة وخاطئة للحرّيّة. بصورةٍ جليّةٍ وضّحَ هذا الكتابُ القيّمُ والثّري في مفاهيمِهِ الإسلاميّةِ ومعارفهِ الاجتماعيّةِ العامّةِ أنَّ "علماءَ الشّيعةِ" لا يفصلونَ بينَ الدِّينِ والسّياسةِ قيدَ أنملةٍ؛ بَلْ ذهبوا إلى أنَّ الدّولةَ المدنيّةَ الحقّةَ هي الدّولةُ القائمةُ على التّعاليمِ الدِّينيّةِ الحقّةِ.  هذهِ دعوةٌ لقراءةِ كتابِ "اتجاه الدّين في مناحي الحياة" والوقوفِ عند حقيقةِ الدّولةِ المدنيّةِ في الفكرِ الإسلاميّ الشّيعيّ وعلاقةِ الدّينِ بالسّياسةِ. ———————————————————  (١) كتاب (اتجاه الدّين في مناحي الحياة) هو أحد أهمِّ كتبه التي أصدرها ضمن سلسلة كتبه البحثيّة العامّة الموسومة بـ (منهج التّثبّت في الدِّين) والتي لم يسعَ فيها إلىٰ التّوغّل في المساحات التّخصّصيّة؛ بل هي نتاج تأمّلات مستفيضة في نصوص القرآن العظيم؛ ودراسات تفصيليّة في كثير من المسائل الدّينيّة (الفقهيّة والعقائديّة) وعلاقتها بنواحي الحياة المتعدّدة؛ ومقارنات متنوّعة بين الاتجاهات التّشريعيّة المُختلفة. لَقَدْ توصّل المؤلِّف في خاتمة كتابه هذا إلىٰ أنَّ المنظومة المعرفيّة الدّينيّة منظومة فطريّة وراشدة وناضجة ومستقيمة؛ وهي مبنيّة علىٰ أصولٍ متينةٍ واتّجاهات صائبة في مناحي الحياة كلّها. ومنسجمة مع ما يُليق ويُتوقّع من الدِّين بحسب المجسّات المتاحة للإنسان بالرّشد العقلانيّ العامّ الذي يُوجب قيام الحجّة الكافية علىٰ عامّة النّاس. علمًا أنَّ الكتاب مؤلَّف مِنْ (٧٠٠) صفحة.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك