الصفحة الفكرية

بحث أكاديمي: منهجية البناء الحضاري لجماعة الانتظار

3112 08:58:00 2013-09-17

إذا كانت الحضارة هي مجموع ثقافات الأفراد للمجتمع الواحد ومن ثم هي حصيلة ثقافات ذلك المجتمع، وإذا كانت الثقافة بمعناها الأعم هي السلوك "الراقي" الذي يتحقق بطاعته لله تعالى وذلك من خلال انتهاج التعاليم الشرعية المأمور بها الفرد، وهذه بمجموعها تسمى التقوى التي من خلالها تتحقق سمة الالتزام الشرعي لذلك الفرد، ومعلوم أن هذه التقوى التي حث عليها الأئمة الأطهار عليهم السلام إحدى أهم آليات الانتظار. ففي الكافي بسنده عن أبي الجارود قال : قلت لأبي جعفر يا بن رسول الله هل تعرف مودتي لكم وانقطاعي إليكم وموالاتي أياكم؟ قال فقال: نعم، قال: فقلت: فأني أسألك مسألة تجيبني فيها فإني مكفوف البصر قليل المشي ولا أستطيع زيارتكم كل حين، قال : هات حاجتك، قلت: أخبرني بدينك الذي تدين الله تعالى به أنتوأهل بيتك لأدين الله تعالى به، قال: إن كنت أقصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة، والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي ندين الله تعالى به، شهادة أن لا اله إلّا الله، وأنّ محمداً رسول الله والإقرار بما جاء به من عند الله والولاية لولينا والبراءة من أعدائنا، والتسليم لأمرنا ، وانتظار قائمنا والاجتهاد والورع.  على أن أئمة أهل البيت عليهم السلام حددوا تكليف أتباعهم وما يجب أن يعملوه إبان غيبة إمامهم، وما هي حدود مسؤولية كل واحدٍ منهم اتجاه نفسه واتجاه الآخرين، أي تحديد التكافل الاجتماعي الذي من خلاله يتاح للمكلف أن يتكامل وللمجتمع الإسلامي أن يرقى إلى درجة الكمال والبناء.

روى المجلسي بسندٍ صحيح عن جابر قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام ونحن جماعة بعدما قضينا نسكنا فودعناه وقلنا له: أوصنا يا ابن رسول الله، فقال: ليعين قلوبكم ضعيفكم، وليعطف غنيكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه ، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنا ، فإن وجدتموه في القرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده، وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا ، فإذا كنتم كما أوصيناكم ولم تعدوا إلى غيره فمات منكم ميّت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً ، ومن أدرك قائمنا فقتل معه كان له أجر شهيدين ، ومن قتل بين يديه عدواً لنا كان له أجر عشرين شهيداً. والرواية بذلك تحدد المعالم العامة للسلوكية الشيعية إبان الغيبة ووظيفة المكلف عند الانتظار، فقد حدد الإمام عليه السلام سلوكية المكلف على المستوى العملي وعلى المستوى العلمي ـ الفكري كذلك.

الاستقرار النفسي لجماعة الانتظار: 

لعل أهم ما يميز أتباع أهل البيت عليهم السلام المتطلعون لانتظار اليوم الموعود هو حالة الاستقرار النفسي الذي يميزهم عن غيرهم. وهذا الاستقرار ناشئ من حالة الاطمئنان المنبعثة من التطلع إلى مستقبل مشرق ترتسم صورته في ذهنية المنتظِر ـ بالكسرـ من خلال فلسفة الانتظار التي يدين بها إلى الله تعالى، فحالات الإحباط الناشئة من ظروف سياسية تحيط بأتباع أهل البيت عليهم السلام لم تعد ذات أثر على مستقبل وجودهم، بل وحتى على ما يتطلع إليه هؤلاء الأتباع من بناء هيكلتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كذلك ، وهذا راجع إلى ما تحمله فلسفة الانتظار من آمال تعقدها النفسية الشيعية على قيام دولة المنتظَر ـ بالفتح ـ فعلى المستوى الفردي يشعر الفرد وهو يعيش حالة الانتظار بالأمل الكبير في تحقق أهدافه تحت ظل الدولة المهدوية المباركة. فالإحباطات النفسية لأسباب متعددة يمكن للفرد أن يتفاداها بما يعقده من آمال على تلك الدولة القادمة التي تبسط العدل والسلام في ربوع هذه الأرض المقهورة، فإذا لم يتحقق هدفه عاجلاً فإنّ مستقبله في الآجل سينجزه ذلك الإمام الموعود ، وبذلك فإنّ هذا الفرد سيكون في حالة أمل دائم وترقب متفاءل يصنع من خلاله غده السعيد ، وبذلك فإنّ الاستقرار النفسي الذي يعيشه المنتظِر هو إحدى خصوصياته، وهذا الاستقرار سيكون سبباً في الإبداع ومن ثم التكامل الذاتي.

أما على المستوى الجماعي فإنّ جماعة الانتظار تطمح إلى تحقيق برامجها في ضوء الآمال المعقودة على ترقب الدولة المهدوية ، وهذه الجماعة تستشعر معايشة قائدها معها في كل الأحوال، وتقطع أن نجاح ما تصبو إليه يكون مرهوناً بتسديد هذا القائد الإلهي ورضاه، وهو مصداق قوله تعالى: (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) ، قال الصادق عليه السلام : والمؤمنون هم الأئمة،  وهذا ما يناسبه سياق الآية.

ومن غريب ما فسرته بعض المذاهب الإسلامية أن المقصود من قوله تعالى : "و المؤمنون " هم جماعة المؤمنين، وهذا من غريب ما وقع به هؤلاء دفعاً لمحذور الاعتراف بمقامات الأئمة الأطهار عليهم السلام التي يقررها القرآن الكريم وتقتضيه شؤون خلافة الله في أرضه ـ في بحث ليس هنا محل ذكره ـ، على أن الخطاب في الأمة للمؤمنين، فكيف يكون بعد ذلك قول الحكيم حكيماً حينما يكون المخاطب المكلف هو نفس الشاهد على عمله؟! وما إلى غير ذلك من خروقات الرؤية السياسية التي تتدخل في التفسير القرآني والحديث النبوي من أجل "استحصال " حالات التأييد لمواقفها المناهضة لأهل البيت عليهم السلام .

وعلى كل حال فإن نجاح جماعة الانتظار يكمن في تفاؤلها الطموح بقيام دولة الحق والعدل، وهي تسعى دائماً إلى صياغة أعمالها على أساس ذلك ، لذا فهي في حيوية دائمة غير مشلولة نتيجة الإحباطات السياسية المحيطة بجماعة الانتظار ، فضلاً عن أن هذه الجماعة تحقق نجاحها في خضم تحديات تواجهها دائماً.وعلى هذا فأي نجاح مهما تكون درجته سيكون له معناه في ظل هذه التحديات وهو مكسب مهم وقضية خطيرة في ظل ذلك.ومقابل هذا فإن أي تعثر في عمل هذه الجماعات سوف لن يسلمها إلى اليأس والتردد طالما هناك البديل الذي يحققه قيام الدولة المهدوية المباركة.

وعلى هذا الأساس فإن جماعة الانتظار تعيش دائماً طموحاتها الواقعية، متحدية بذلك الصعاب والإحباطات التي تواجهها في ظل ظروف تتكالب على هذه الجماعة سعياً لإنهائها وتصفيتها. هذه الحالة من التفاؤل التي تعيشها جماعة الانتظار تبعث على الأمل في تحقيق برامجها وبناء حضارتها والسعي من أجل التكامل في كل الميادين. من هنا علمنا دواعي العمل الدائم الحثيث لجماعة الانتظار، وأسباب نجاحها على كل الأصعدة بالرغم من كل ماعانته وتعانيه من ظروف قاهرة يصعب معها الإبداع، فضلاً عن البقاء، لولا ذلك الأمل الذي يحدو جماعة الانتظار.

وعلمنا في الوقت نفسه إمكانية تأسيس حضارة تعيش طموحاتها هذه الجماعة في ظل فلسفة الانتظار. إلى جانب ذلك، يعيش الفرد البعيد عن حالة الانتظار حالات التوجس من الفشل وهاجس الخوف على مستقبله المجهول ، فأية قضية يواجهها هذا الفرد تودي بكل طموحاته وتشل قدراته، فهو يحاول أن يحقق مكسبه عاجلاً لغياب حوافز البديل فيما لو أخفق على صعيد عمله، فإن خسارته هذه ستكون فادحة فيما إذا هو أحس بعدم تعويضها بالبديل.

والانتظار حالة أملٍ وطيد يعيشه المنتظِر ـ بالكسرـ فإذا غابت عن الإنسان هذه الرؤية فلابد أن تحيط ذاته هواجس الخوف، وبذلك سيكون مهزوماً دائماً، غير جدير بإمكانية مواجهة الصعاب والمحن التي تعصف به في كل حين من خلال ظروف عالميةِ متقلبة وإقليمية غير مستقرة، وبذلك فلم يكن مثل هذا الفرد جديراً في بناء حضارة أو السعي لتكامل ذاته وبناء شخصيته.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصوصيات حضارة الانتظار:

على أن ما يميز جماعة الانتظار هو حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذه الحالة تساعد على تمتين أواصر العلاقة بين أعضاء هذه الجماعة، إذ هي تشير إلى حالة الشعور بالمسؤولية دائماً اتجاه ذات الفرد ومن ثم اتجاه مجتمعه. فملاحقة حالات الخرق للمجتمع الملتزم تتكفل إصلاحه قابلية أفراد المجتمع على متابعة المنكر المرتكب من قبل الأفراد أو الجماعات، لتقف بوجه الخطر الناشئ عن هذا الخرق المرتكب ، والمحافظة على حدود الشريعة بالتذكير الدائم والرقابة المستمرة لعدم تجاوز حيثيات الالتزام الديني.

ومن جهته يسعى هذا المجتمع بكل شرائحه وفصائله إلى تميتن العلاقة بينه وبين إقامة الواجبات الدينية، وكذلك المستحبات التي يرغب الشارع في مزاولتها من قبل المكلفين.

فإذا تمت هذه الحالات واستطاع المجتمع من المداومة عليها ورعاية حقوقها، أمكن لهذا المجتمع من بناء شخصيته الحضارية المتميزة بالأمن والسلام، وذلك بتجنب المنكر المنهي عنه من قبل أفراده، إضافة للعدل والمعروف بكل مصاديقه لعناية أفراد المجتمع بإتيانه والأمر به.

وهكذا سوف تكون لحضارة جماعة الانتظار حضورها الدائم وشخصيتها المتميزة. فقد حث أئمة أهل البيت عليهم السلام شيعتهم على التزام هذه الفريضة وكونها إحدى ميزاتهم التي تركها غيرهم ولم يتحلوا بها، ثم بيّنوا ما لهذه الفريضة من آثار وضعية فضلاً عن إسقاط التكليف بالعمل بها وعدم العقوبة عند إتيانها.

عن أبي جعفر عليه السلام قال: يكون في آخر الزمان قوم ينبع فيهم قوم مراؤون... إلى أن قال: ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب الله عز وجل عليهم فيعمّهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الأشرار ، والصغار في دار الكبار، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب ، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض ، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر ... الحديث.

والحديث يبين أسس البناء الحضاري عند مراعاة الفريضة، فبها تقام الفرائض أي يشيّد مجتمع إسلامي تكون معالمه أحكام الشريعة، ويطبق من خلال ذلك النظام الإسلامي الذي يطمح إليه الجميع.

كما أنّ قوله عليه السلام: " وتأمن المذاهب" فإن استتباب الأمن والسلام مرهون بتطبيق هذه الفريضة. وقوله عليه السلام : وتحل المكاسب، فإنّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتم تشييد البنية الاقتصادية وهيكلة النظام المعاشي، وذلك من خلال استتباب الأمن وإمكانية تنشيط دور القطاعات العاملة والرساميل التي يمتلكها أصحابها. وقوله عليه السلام :" وترد المظالم " فإن الحقوق المدنية تتحقق في ظل نظام أمني مستقر، وبغياب ذلك لا يمكن القيام بأية مهمة من شأنها تحقيق ضمانة النظام الإنساني. وقوله عليه السلام : و" تعمر الأرض " فإن الإصلاح الاقتصادي يمكن القيام به عندما يتعاهد ذلك نظام يحفظ الحقوق ويشجّع على استثمارات اقتصادية تتكفل بنظام اقتصادي رشيد، وإعمار الأرض لا يقتصر على استصلاحها زراعياً أو معدنياً ، فلعل ذلك إشارة إلى إصلاح الأرض وما عليها من نظام سكاني يلازم صلاحية الأرض لاحتواء التجمعات البشرية حينئذ .

وقوله عليه السلام : و" ينتصف من الأعداء" فإن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يستتب الأمن بسببهما يمكن من خلال ذلك إيجاد قوة دفاعية ترد كيد الأعداء ، أو هجومية تعين جماعة الانتظار على حفظ حقوقهم والحصول على مكاسبهم المشروعة اتجاه القوى الأخرى.

وقوله عليه السلام: " ويستقيم الأمر" فهو محصلة هذه الجهات التي يمكن تحققها في ظل القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

كما أن اللهجة التي يستخدمها الأئمة عليهم السلام في مراعاة هذه الفريضة والوجوب بإتيانها لهجة تتعدى أسلوب الحث والترغيب إلى أسلوب الإنذار والتهديد، وحلول اللعنة التي يحذّر الإمام عليه السلام أتباعه منها بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أسلوب يشدده الأئمة عليهم السلام في استتباب هذه الفريضة بين جماعة الانتظار. فعن محمد بن مسلم قال: كتب أبو عبد الله عليه السلام إلى الشيعة: ليعطفن ذوو السن منكم والنهى على ذوي الجهل وطلاب الرئاسة، أو لتصيبنّكم لعنتي أجمعين.

على أن من مهام التغيير هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك سبب في بناء حضاري وتكامل ذاتي. فعن الحسن عن أبيه عن جده قال: كان يقال: لايحل لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيره. فإنّ النزعة التغييرية لدى جماعة الانتظار مبنية على محاولة الإصلاح والارتباط بالله تعالى وتطبيق شريعته. خصوصية العزة والكرامة ورفض الذل والهوان:

وإذا كانت جماعة الانتظار ترتبط بقيادتها المعصومة التي ستحقق لها آمالها ببسط العدل والسلام بقيام دولتها الموعودة، فإن لهذا الشعور الدائم آثاره في سلوكية هذه الجماعة، فهي تستشعر الأمل بتحقيق طموحاتها، وعندها فلا داعي للركون إلى الغير أو الشعور بحاجة الغير فهي في غنىً دائم عن الأخرين، لأنها ترتبط بقيادة تسحق بظهورها كل ظلم وطغيان. وهذه الدواعي لدى جماعة الانتظار تدفعها إلى الإحساس بالنجاح والظفر على مدى مستقبل أطروحة الانتظار التي تحقق معها قيام دولة الحق، وهذه الدواعي تعزز لدى الأفراد منهم العزة والكرامة ورفض الذل والهوان بالركون إلى الأخرين. إذن فالانتظار يدعو إلى الأمل الدائم وتحقيق النصر والنجاح على كل المستويات. وهذا هو سبب استقلالية جماعة الانتظار وعدم لجوئها إلى غيرها، حيث تقررت شخصيتها من خلال ممارسة أسلوب الاعتماد على النفس من دون الخضوع إلى أطروحات الأخرين علمياً أو عملياً.

الانتظار الكبير

المستقبل الذي ينبغي أن تعقد عليه الآمال، والذي شاءت الإرادة الإلهية أن يسير نظام العالم تجاه، هو هذا الذي ذكرناه. والآن ينبغي أن نعود إلى موضوع انتظار الفرج الذي قسمناه في بداية هذا الحديث إلى قسمين:

انتظار بناء حركي ملتزم عبادي، بل من أفضل العبادات، وانتظار مخرب معوق يبعث على الخمود والخمول والكسل والتقاعس، ويعتبر نوعا من "الإباحية".

ذكرنا أن هذين اللونين من الانتظار ينطلقان من نوعين من التصور حول الحدث التاريخي العظيم المتمثل بظهور المهدي الموعود. وهذان التصوران ينتجان بدورهما من نوعين من التصور بشأن تطور التاريخ.

نشرح فيما يلي هذين النوعين من الانتظار نبدأ بالانتظار المخرب:

انتظار المخرب

بعض المؤمنين بظهور المهدي يتصورون أن نهضة هذا المنجي ذات طابع انفجاري محض، وناتجة فقط عن انتشار الظلم والجوع والفساد والطغيان، أي أن مسألة الظهور نوع من الإصلاح ناتج عن تصاعد الفساد.

هؤلاء يتصورون أن مسيرة البشرية تتجه إلى انعدام العدل والقسط، وإلى زوال أنصار الحق والحقيقة، وإلى استفحال الباطل.

وحينما يصل هذا الانحدار إلى نقطة الصفر يحدث الانفجار المرتقب، وتمتد يد الغيب لإنقاذ الحقيقة - لا أنصار الحقيقة - إذ لن يبقى للحقيقة أنصار آنذاك. هذا التصور يُدين كل إصلاح، لأن الإصلاح، يشكل نقطة مضيئة على ساحة المجتمع العالمي، ويؤخر الإمداد الغيبي كما يعتبر هذا التصور كل ذنب وتمييز وإجحاف مباحا لأن مثل هذه الظواهر تمهد للإصلاح العام وتقرب

موعد الانفجار.

هذا التصور يميل إلى مذهب الذرائع الذي يذهب إلى أن الغاية تبرر الوسيلة فإشاعة الفساد - بناءاً على هذا التصور - أفضل عامل على تسريع ظهور المهدي وأحسن شكل لانتظار فرج ظهوره. أصحاب هذا التصور ينظرون إلى الذنوب نظرة تفاؤل واستبشار ويعتبرونها عاملا مساعدا على انطلاق الثورة المقدسة الشاملة. هؤلاء ينظرون إلى المصلحين والمجاهدين والأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بعين الحقد والعداء.. لأنهم يعملون على تأخير ظهور المهدي. أصحاب هذا التصور - إن لم يكونوا هم من زمرة العاصين - ينظرون إلى أصحاب المعاصي بعين الارتياح والرضى لأنهم يمهدون لظهور القائم المنتظر.

الانتظار البنّاء:

الآيات الكريمة التي تشكل أرضية التفكير حول ظهور المهدي المنتظر تتجه إلى جهة معاكسة للنظرة السابقة. هذه الآيات تشير إلى أن ظهور المهدي حلقة من حلقات النضال بين أهل الحق وأهل الباطل، وأن هذا النضال سيسفر عن انتصار قوي الحق. وتتوقف مساهمة الفرد في تحقيق هذا الانتصار على انتمائه العملي إلى فريق

أهل الحق.

هذه الآيات التي تستند إليها الروايات في مسألة ظهور المهدي تشير إلى أن المهدي تجسيد لآمال المؤمنين العاملين، ومظهر لحتمية انتصار فريق المؤمنين. ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنََّهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكََأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)(النور55)

ظهور المهدي الموعود تحقيق لمنة الله على المستضعفين ووسيلة لاستخلافهم في الأرض ووراثتهم لها.

((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)) (القصص5-6)

ظهور المهدي الموعود تحقيق لما وعد الله به المؤمنين والصالحين والمتقين في الكتب السماوية المقدسة: )وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(الأنبياء105) ثمة حديث معروف في هذا المجال يذكر أن المهدي "يملأ به الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا ". هذا الحديث شاهد على ما ذهبنا إليه ي مسألة الظهور لا على ادعاء أرباب الانتظار المخرب. هذا الحديث يركز على مسألة الظلم ويشير إلى وجود فئة ظالمة وفئة مظلومة وإلى أن المهدي يظهر لنصرة الفئة المظلومة التي تستحق الحماية. ولو كان الحديث يقول أن المهدي "يملأ الله به الأرض وإيماناً وتوحيداً وصلاحاً بعدما ملئت كفراً وشركاً وفساداً" لكان معنى ذلك أن نهضة المهدي الموعود تستهدف إنقاذ الحق المسحوق لا إنقاذ أنصار الحق، وأن كان هؤلاء الأنصار أقلية.

يروي الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام:إن ظهور المهدي لا يتحقق حتى يشقي من شقي ويسعد من سعد". الحديث عن الظهور يدور حول بلوغ كل شقي وكل سعيد مداه في العمل، ولا يدور حول بلوغ الأشقياء فقط منتهى درجتهم في الشقاوة. وتتحدث الروايات الإسلامية عن نخبة من المؤمنين يلتحقون بالإمام فور ظهوره.

ومن الطبيعي أن هذه النخبة لا تظهر معلقة في الهواء بل لا بدّ من وجود أرضية صالحة تربي هذه النخبة على الرغم من انتشار الظلم والفساد. وهذا يعني أن الظهور لا يقترن بزوال الحق والحقيقة، بل أهل الحق- حتى ولو قلوا فرضاً - يتمتّعون بكيفية عالية تجعلهم في مصافي المؤمنين الأخيار، وفي مرتبة أنصار الحسين بن علي عليهما السلام.

الروايات الإسلامية أيضا عن سلسلة من النهضات يقوم بها أنصار الحق قبل ظهور المهدي، منها نهضة اليماني.مثل هذه النهضات لا يكن أن تبتدئ بساكن، ولا تظهر دون أرضية مسبقة.

بعض الروايات تتحدث عن قيام دولة أهل الحق التي تستمر حتى ظهور المهدي.. حتى أن بعض العلماء أحسنواالظن بدولة بعض السلالات الحاكمة، فظنوها أنها الدولة التي ستحكم حتى ظهور المهدي. هذا الظن - وان كان ينطلق من سذاجة في فهم الوقائع السياسية والاجتماعية - يدل على استنباط هؤلاء العلماء من الروايات والأخبار المتعلقة بظهور المهدي ما يشير إلى أن الظهور لا يقترن بفناء الجناح العدل والتقوى والصلاح على جناح الظلم والتحلل والفساد.

الآيات والروايات المرتبطة بظهور المهدي المنتظر تدلّ على أن ظهوره يشل آخر حلقات الصراع الطويل بني أنصار الحق وأنصار الباطل منذ بدء الخليقة.

"المهدي المنتظر تجسيد لأهداف الأنبياء والصالحين والمجاهدين على طريق الحق".

الانتظار ثبات على الولاية

إن من العقائد الثابتة لدينا أن الأرض لا تخلو من حجة إلى يوم القيامة، ولكن الظروف التي ألمّت بالشيعة في عصور الأئمة عليهم السلام اقتضت أن يكون الإمام الثاني عشر غائباً عن أنظارنا إلى أن يحين الفرج بإذن الله تعالى..

ورغم غيابه عجل الله تعالى فرجه الشريف إلا إن ارتباطنا لا ينبغي أن ينقطع أو يتجمّد كما هي ادعاءات البعض ..لأنه عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس غائباً عن معادلات التأثير المرتبطة بواقعنا والمرتبطة (بالكون)..فقد سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل ينتفع الشيعة بالقائم عليه السلام في غيبته؟ فقال: إي والذي بعثني بالنبوة إنهم لينتفعون به، ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جللّها السحاب ، فكما أن الشمس تواصل عطاءها ودورها حتى حينما تتوارى خلف السحب، كذلك الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف يواصل عطاءه ويبقى نوره متوهجاً..في غيبته .. وأول ما ننتفع به هو تماسك الكون وتأثيره الكوني فيه ففي الحديث: (لو لا الحجة لساخت الأرض بأهلها)، وكما قال الإمام المنتظر نفسه عجل الله تعالى فرجه الشريف: (وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء).

كما أن له عجل الله تعالى فرجه الشريف ارتباط وثيق بمدى تمسك المؤمنين بإيمانهم، حيث لابد أن يمهد لخروجه بالعمل الجاد الدءوب... ومن ارتباطنا بالإمام الغائب في التوسّل إلى الله وطلب الشفاعة منه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشفعاء خمسة: القرآن، والرحم، والأمانة، ونبيكم، وأهل بيت نبيكم) .

وانتظارنا لخروجه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملأت ظلماً وجوراً ونحن متمسكين بمبادئه ونعمل على التمهيد إلى ظهوره بإيمان وصبر لهو أفضل العبادة.. كما في الحديث عن رسول الله: صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل أعمال أمتي انتظار فرج الله عزوجل). وقول الصادق عليه السلام: (المنتظر للثاني عشر كالشاهر سيفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذبّ عنه.

البعد العقيدي للانتظار:

لقد كثرت الروايات حول قيمة انتظار القائم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذ عبرت أنه من أفضل الأعمال في عصر غيبته عليه السلام، كما عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل انتظار الفرج)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج)، وعن أبي الحسن الرضا عن آبائه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله عزّ و جلّ)، بل قد جاء عن أمير المؤمنينعليه السلام انه قال:(المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله).

إن كثرة الروايات عن الانتظار وهي مهمة الشيعة في عصر الغيبة، أو هي مهمة من المهام، تجعلنا نؤكّد على دراسة مفهوم الانتظار لنستجلي معانيه ودلالاته، وأكثر ما وجدتُ من معالجات العلماء الأعلام الذين كتبوا حول الانتظار ركّزوا على البعد العملي والدلالة الإيجابية لمفهوم الانتظار، وهي الملخصة في فكرة الإعداد والاستعداد لظهور الإمام عجل الله فرجه، حيث أن المنتظر للضيف سيكون عمله الاستعداد والتهيئة لذلك الضيف، فإذا كان الضيف هو الإمام المعصوم عليه السلام، فإن الانتظار يكون الإعداد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل إلى إقامة حكم الله في الأرض، وتكوين مجتمع له الإمكان والاستعداد لحمل الراية عند ظهوره عجل الله تعالى فرجه الشريف.

ولاشك أن هذا المعنى لهو ما ينبغي على المؤمنين تأديته، وهو مأخوذ كما هو واضح، ليس من المعنى اللغوي لكلمة الانتظار إنما من القرينة المقامية لانتظار الإمام المعصوم عليه السلام ويكون المعنى اللغوي مساعداً عليه فـ (كلمة الانتظار قد أُشتقت من (نظر) كما قال صاحب المفردات:(نظر:‏ النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته وقد يراد به التأمل والفحص وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص .....والنظر الانتظار يقال نظرته وانتظرته وأنظرته) .ونود أن نشير إلى بعد إضافي آخر لمفهوم الانتظار من الناحية العقيدية، ليعطي سعة لما ورد، وهو معنى لا يقل أهمية عن الأول إن لم يكن أكثر أهمية، لأنه يرتبط بالأساس العقيدي الذي تدور مدارات قبول الأعمال وعدمها بمقدار سلامته.

المعنى الذي نستخلصه للانتظار هو (البقاء على الإيمان بالعقيدة بالمهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في عصر الغيبة) طوال حياة الإنسان، ورغم التشكيكات الضاغطة التي تتقاذف من أفواه بعض المشككين، ولا يخفى ما للبقاء على الإيمان بالمهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف من أهمية تتصل ببعد الإمامة التي تختتم به عليه السلام، إذ عدم الإيمان به يعد خرقاً لعقيدة الإمامة التي تؤمن بإثني عشر إماماً بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، كما نصّت بذلك النصوص الصحيحة.

ونحدد الوجوه التي تدل على هذا المعنى بالآتي:

الانتظار.. اعتقاد

1ـ كما أن من ينتظر شخصاً، يقوم بالإعداد لقدومه، فإن من ينتظر شخصاً فإنه يعترف به، إذ قد ورد في الانتظار أن الذي سيظهر إمام من نسل الأئمة عليه السلام، وهو بُعد العقيدة عند الإنسان المنتظِر، فمن ينتظر عالماً فذلك اعتراف بعلميته، ومن ينتظر ظالماً فإنه يعتقد بظلمه، وهكذا من ينتظر إماماً من المؤكد أنه يعترف بإمامته. ومن يقول في دعائه (عزيزٌ عليّ أن أرى الخلقَ ولا تُرى، ولا أسمع لك حسيساً ولا نجوى، عزيزٌ عليّ أن تحيطَ بك دوني البلوى ولا ينالك مني ضجيج ولا شكوى، بنفسي أنت من مغيّب لم يخل منّا، بنفسي أنت من نازحٍ ما نزحَ عنّا، بنفسي أنت أمنية شائق يتمنّى، من مؤمن ومؤمنة ذكراً فحناً) ، وهو دعاء في انتظار الفرج والشوق إليه، فمن يردّد هذا الدعاء فهو بلا أدنى شك من المؤمنين بالقائم من باب أولى.

المنتظرون هم الشيعة صدقاً:

2ـ الأمر الذي يؤازر هذا المعنى بشكل قوي هو اقتران امتحان عقيدة المسلم في عصر الغيبة، بمسألة الانتظار، مما يدل على أن الانتظار يشكل بعد التمسك بتلك العقيدة المهدوية وأمان من الانحراف عنها إلى غيرها، وأن المنتظرين هم الثابتون على ولاية أهل البيت عليه السلام وهم الشيعة صدقاً لا بالاسم بل بالاعتقاد (الانتظار)،

كما في هذا الحديث العالي الشأن: (عن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي عن على بن الحسين عليه السلام قال تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم و الأئمة بعده يا أبا خالد إنَّ أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظِرون لظهوره أفضل أهل كل زمان لان الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول و الإفهام و المعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة وجعلهم في ذلك الزمان بمنزله المجاهدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله و سلَّم بالسيف أولئك المخلصون حقا و شيعتنا صدقا و الدعاة إلى دين الله سرا و جهرا و قال: (انتظار الفرج من أعظم الفرج). ففي هذا الحديث يصف المنتظرون بأنهم أوتوا من العقول و الأفهام والمعرفة ما يجعل عقيدتهم بالإمام المنتظر قوية، فكأنهم في عصر الغيبة في مشاهدة له عجل الله فرجه، وهذا هو المعنى الذي يظهر من مفهوم الانتظار.

الثابتون في عصر الغيبة:

3ـ لقد ورد في الروايات عن أهل البيت عليه السلام أن الثبات على الولاية لها أجر عظيم، كما في الحديث عن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام:(من ثبت على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأحد).

وعن يمان التمّار قال: ( كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام جلوساً فقال لنا: إن لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسك فيها بدينة كالخارط للقتاد ثم قال: هكذا بيده، فأيّكم يمسك شوك القتاد بيده ؟ ثم أطرق مليّاً، ثم قال: إن لصاحب هذا الأمر غيبة، فليتق الله عبد وليتمسك بدينه).

الانتظار بالصبر:

4ـ أن بعض الروايات جاء فيها الانتظار مقروناً بالصبر، والصبر يدل على الثبات وعدم الانحراف عن العقيدة، كما عن الإمام الرضا عليه السلام انه قال:(إن دينهم الورع والعفة والاجتهاد.. والصلاح وانتظار الفرج بالصبر)، فالصبر أداة ووسيلة للانتظار.

فمفهوم الانتظار الذي ينبغي أن يتمثله الإنسان المسلم، إضافة إلى ما يعنيه من العمل على التهيئة والإعداد للإمام المنتظرعجل الله تعالى فرجه الشريف في الإصلاح والتغيير، كذلك هو الثبات على الولاية والتمسّك بالعقيدة المهدوية في زمن التشكيكات والمشككين، فإن انتظار المهدي ثبات على الولاية، والثبات على الولاية ثبات على الدين وهو أفضل أعمال الإنسان في زمن الغيبة.

تشريف الإمام عجل الله تعالى فرجه

إن وجود الإمام المعصوم في الأمة هو المصدر الشرفي لها، فهو الذي يحدّد معالمها ويكوّن كيانها ويضفي عليها شرعية مستمدّة من منبع الوجود جل وعلا، فالتكوين الذي يضفيه الإمام المعصوم هو تكوين متسامٍ عن المادّيات الزائلة، وقريب من العنويات الإلهية الباقية، .. هذا الشرف الأبدي الذي اختارته السيدة نرجس عليها السلام بعد قدومها من رحلة السفر الشاقّة ومعاناة الأسر الأليمة، حينما سألها الإمام الهادي عليه السلام قائلاً:فإني أريد أن أكرمك، قأيّما أحب إليك: عشرة آلاف دينار، أم بشرى لك بشرف الأبد ؟

قالت: بل البشرى.. (رغم أن المبلغ لم يكن قليلاً حينها بل يعدّ ثروة طائلة، فقد اشتراها الإمام من سوق الرّق بمأتين وخمسين ديناراً فقط، وما يقدّمه الإمام لها الآن أضعافاً مضاعفة، يعادل شراء أربعين جارية بل أكثر إذا ما قيست النسبية بينهن وقتها).. فتختار السيدة نرجس شرف الأبد .. وهي متلهفة لسماع هذا الشرف من فم الإمام .. فقال عليه السلام: فابشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجور)

فهذا الشرف الإلهي هو الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الذي يغيّر المعادلات في أي أمة تتشرّف برعايته وهي مدركة حقه ومكانته، باعتباره الإمام المعصوم المفترض الطاعة، المجسّد للقيم الإلهية بأجلى صورها..

وتمر أيام الزمن ويتزوج الإمام الحسن العسكري عليه السلام من السيدة نرجس، فتحمل بإمام العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف .. فتأتي لها السيدة الطاهرة حكيمة عمة الإمام عليه السلام ليلة النصف من شعبان، وهي مدركة تماماً مدى التغيير للمعادلات الذي يصنعه مقام الإمام ومدى الشرف الذي يسبغه على المرتبط به .. فألقت السلام على أهل البيت وجلست .. فجاءت نرجس تنزع خف حكيمة وتقول لها: يا سيدتي وسيدة أهلي، فأنكرت نرجس قولها .. وقالت: ما هذا يا عمة!

فقالت حكيمة: (إن الله تعالى سيهب لك في ليلتنا هذه غلاما سيدا في الدنيا والآخرة) . هكذا غيّر شرف الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف المعادلات، فهل تغيرها في واقعنا بعد أن شرفنا الله بولاية إمام زماننا ؟! يتحقق ذلك عندما نجسّد تعاليم القرآن وأهل البيت عليه السلام في واقعنا .. و نهتدي بهديهم .. لا بما تمليه علينا أهواؤنا وعصبيّاتنا البغيضة.

خاتمة في فضل الانتظار

تعرضت كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الطاهرين عليهم السلام إلى فضيلة الانتظار. ولعل هذه الأحاديث ليست على سبيل الحصر، بل ذكرها أهل البيت عليهم السلام كأجلى مصاديق الانتظار وأوضحها، وإلاّ ففضائل الانتظار أكثر من أن تحصى، ويكفيها قولهم عليهم السلام: أفضل العبادة انتظار الفرج، فإن أرقى ما يصل إليه الإنسان من تكامل ورقي روحي وعملي كذلك هو بلوغه أرقى مقامات القرب إلى الله تعالى الذي تحققه عبادته، فكيف إذا وصف العمل بأنه أفضل العبادات؟ مما يعني أن الإنتظار يعد في أولوية حالات التكامل والنهوض بمستوى الفرد، ومن ثم مستوى المجتمع.

روى الصدوق بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من مات منكم على هذا الأمر منتظراً له كان كمن كان في فسطاط القائم عليه السلام.

وبنفس إسناده عن أبي الحسن عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله عز وجل.

وعن أبي عبد الله عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله.وفي البحار عن عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : العبادة مع الإمام منكم المستتر في السر في دولة الباطل أفضل، أم العبادة في ظهور الحق ودولته مع الإمام الظاهر منكم؟

فقال: يا عمار الصدقة في السر والله أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك عبادتكم في السرّ مع إمامكم المستتر في دولة الباطل أفضل، لخوفكم من عدوّكم في دولة الباطل وحال الهدنة، ممن يعبد الله في ظهور الحق مع الإمام الظاهر في دولة الحق، وليس العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة مع الأمن في دولة الحق. اعلموا أن من صلى منكم صلاة فريضة وحداناً مستتراً بها من عدوه في وقتها فأتمها كتب الله عز وجل له بها خمسة وعشرين صلاة فريضة وحدانية، ومن صلى منكم صلاة نافلة في وقتها فأتمها كتب الله له بها عشرين حسنة، ويضاعف الله تعالى حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله، ودان الله بالتقية على دينه وعلى إمامه وعلى نفسه، وأمسك من لسانه، أضعافاً مضاعفة كثيرة، إن الله عز وجل كريم.

قال: فقلت: جعلت فداك رغبتني في العمل، وحثثتني عليه، ولكني أحب أن أعلم : كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام منكم الظاهر في دولة الحق ونحن وهم على دين واحد، وهو دين الله عز وجل؟ فقال: إنكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله وإلى الصلاة والصوم والحج وإلى كل فقه وخير، وإلى عبادة الله سراً من عدوكم مع الإمام المستتر ، مطيعون له، صابرون معه، منتظرون لدولة الحق، خائفون على إمامكم وحقكم في أيدي الظلمة، قد منعوكم ذلك واضطروكم إلى جذب الدنيا وطلب المعاش مع الصبر على دينكم، وعبادتكم وطاعة ربكم والخوف من عدوكم، فبذلك ضاعف الله أعمالكم فهنيئاً لكم هنيئاً. قال: فقلت: جعلت فداك فما نتمنى إذاً أن نكون من أصحاب القائم عليه السلام في ظهور الحق، و نحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالاً من أعمال أصحاب دولة الحق؟ فقال:سبحان الله أما تحبون أن يظهر الله عز وجل الحق والعدل في البلاد ويحسن حال عامة الناس ويجمع الله الكلمة ويؤلف بين القلوب المختلفة ولا يعصى الله في أرضه، ويقام حدود الله في خلقه، ويردّ الحق إلى أهله فيظهرون حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق؟ أما والله يا عمار لا يموت منكم ميت على الحال التي أنتم عليها إلاّ كان أفضل عند الله عز وجل من كثير ممن شهد بدراً وأحداً فأبشروا.

وروى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: سيأتي قوم منبعدكم الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم ، قالوا: يا رسول الله نحن كنا معك ببدر وأحد وصفين ونزل فينا القرآن! فقال: إنكم لو تحمّلوا ما حمّلوا لم تصبروا ما صبروا.وعن جابر عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان، إنّ أدنى ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم الباري عز وجل: عبادي آمنتم بسرّي  وصدّقتم بغيبي ، فأبشروا بحسن الثواب مني فأنتم عبادي وإمائي حقاً، منكم أتقبّل وعنكم أعفو، ولكم أغفر ،وبكم أسقي عبادي الغيث، وأدفع عنهم البلاء، ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي.

قال جابر: فقلت يا ابن رسول الله فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك الزمان : قال حفظ اللسان ولزوم البيت.غيبة النعماني بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال ذات يوم: ألا أخبركم بما لا يقبل الله عز وجل من العباد عملاً إلّا به؟ فقلت: بلى، فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده، والإقرار بما أمر الله والولاية لنا والبراءة من أعدائنا، والتسليم لهم ـ يعني الأئمة خاصة ـ والورع والاجتهاد والطمأنينة والانتظار للقائم عليه السلام، ثم قال: إن لنا دولة يجيء الله بها إذا شاء، ثم قال : من سرّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر من أدركه فجدّوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة.

__________________________________________________________

المصادر:

1. اعلام الهداية .

2. الغيبة والانتظار     للسيد محمد علي الحلو

3. القائد المنتظر للسيد صدر الدين القابنجي .

4. مسؤولياتنا في عصر الغيبة .

5. نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ لمرتضى المطهري .

6. الانتظار ثبات على الولاية    محمد الموسوي .

 

7. لقاء مع الشيخ المرجع اية الله بشير النجفي (مجلة الانتظار).

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
آخر الاضافات
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك