الصفحة الفكرية

المرجعية الشيعية ودورها في صون الإسلام...الباحث الشيعي المصري دكتور أحمد راسم النفيس

3610 21:56:00 2012-12-31

لم يتعرض تيار فكري أو عقائدي على مدى التاريخ لمثل ما تعرض له شيعة أهل البيت عليهم السلام من حروب تهدف إلى إبادتهم ومحو معتقداتهم من الوجود.

سألني أحد الباحثين الشبان عن السر الكامن وراء هذا البطش وتلك القسوة المتمادية من قبل خصوم مدرسة أهل البيت عليهم السلام, تجاه الشيعة رغم أن القوم لا يكفون عن التشدق بأن الإسلام يقر مبدأ حرية العقيدة والاختيار وهل يرجع هذا لاقتناع هؤلاء بأن الشيعة بالفعل هم أصحاب عقائد فاسدة أم ماذا؟!.

لماذا أصر يوسف بن أيوب الملقب بصلاح الدين على تدمير مكتبة الفاطميين ولم يفكر في استبقائها فربما تفيده وتفيد المجتمع كله بدلا من انتهاجه هذا الأسلوب الهمجي اللا إنساني؟!.

الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر العسير خاصة وأننا نعرف أن القرآن الكريم شبه بعض الناكثين عن صراط الله المستقيم بالأنعام بل هم أضل.

يقول تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ) .

من الطبيعي أن تتنوع الحالة الحيوانية التي يعيشها الإنسان المرتكس فهو تارة خنزير وأخرى كلب ولا شك أيضا أن الحيوانية هي دركات بعضها أسفل من بعض!!.

فهناك الكلب: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) .

وهناك القردة والخنازير: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) .

وهناك الحمار: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) .

والمعنى أن أولئك الممسوخين المركوسين المنحطين الذين ارتدوا عن إنسانيتهم وأصبحوا هم والوحوش الضارية سواء بسواء هم أشكال وأنواع.

فمن الوحوش الضارية من لا يفترس إلا ليسد حاجته من الطعام ولو لم يكن جائعا لما نهش لحوم الآخرين!!.

ومنهم الوحش الحقير الذي يفترس لمجرد الافتراس ويقتل لمجرد القتل من دون تحصيل نفع حقيقي حتى ولو كان من خلال العدوان.

ومنهم الضبع الحقير الذي ينتظر فضلات الوحوش الكاسرة ليلتهمها من دون أن يبذل جهدا سوى المراقبة والانتظار!!.

نحن أمام صنف حقير من المخلوقات ولا نقول من البشر يقتل لمجرد القتل ويدمر من أجل التدمير أو يأكل فضلات الآخرين ولا يرى لنفسه سعادة إلا فوق الجثث والرمم والواقع أن أغلب أعداء الشيعة هم من هذا الصنف الحقير والخطير في آن واحد.

إعداد النخبة القيادية

وسط هذه الظروف كانت المهمة الملقاة على عاتق أئمة أهل البيت عليهم السلام ورجالهم رجال الله الملتفين حولهم المؤتمرين بأمرهم المخلصين لعهدهم من الفقهاء والمجاهدين الذين تحملوا شتى صنوف العنت والإيذاء لتبقى كلمة الله حية ومضيئة في دنيا البشر (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .

لم تبدأ مهمة إعداد هذه النخبة عشية الغيبة الكبرى كما يعتقد البعض بل بدأت منذ اللحظات الأولى وفي عهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حيث يذكر ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة: روى إبراهيم في كتاب الغارات عن أحمد بن الحسن الميثمي، قال: كان ميثم التمار مولى على بن أبى طالب (ع) عبدا لامرأة من بنى أسد فاشتراه على (ع) منها وأعتقه وقال له: ما اسمك؟ فقال: سالم، فقال: إن رسول الله (ص) أخبرني أن اسمك الذي سماك به أبوك في العجم ميثم، فقال: صدق الله ورسوله، وصدقت يا أمير المؤمنين، فهو والله اسمي. قال: فارجع إلى اسمك، ودع سالما، فنحن نكنيك به، فكناه أبا سالم. قال: وقد كان قد أطلعه علي (ع) على علم كثير، وأسرار خفية من أسرار الوصية، فكان ميثم يحدث ببعض ذلك، فيشك فيه قوم من أهل الكوفة وينسبون عليا (ع) في ذلك إلى المخرقة والإيهام والتدليس، حتى قال له يوما بمحضر من خلق كثير من أصحابه، فيهم الشاك وفيهم المخلص: يا ميثم إنك تؤخذ بعدى وتصلب فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دما، حتى تخضب لحيتك، فإذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة يقضى عليك، فانتظر ذلك. والموضع الذي تصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث، إنك لعاشر عشرة أنت أقصرهم خشبه، وأقربهم من المطهرة يعنى الأرض ولأرينك النخلة التي تصلب على جذعها، ثم أراه إياها بعد ذلك بيومين، وكان ميثم يأتيها فيصلى عندها ويقول: بوركت من نخلة لك خلقت ولي نبت فلم يزل يتعاهدها بعد قتل على (ع) حتى قطعت فكان يرصد جذعها، ويتعاهده ويتردد إليه، ويبصره، وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول له: إني مجاورك فأحسن جواري, فلا يعلم عمرو ما يريد، فيقول له: أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أم دار ابن حكيم؟. قال: وحج في السنة التي قتل فيها، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها, فقالت له: من أنت؟ قال: عراقي فاستنسبته، فذكر لها أنه مولى على بن أبى طالب، فقالت: أنت هيثم، قال: بل أنا ميثم، فقالت: سبحان الله! والله لربما سمعت رسول الله (ص) يوصي بك عليا في جوف الليل، فسألها عن الحسين بن علي، فقالت: هو في حائط له، قال: أخبريه أني قد أحببت السلام عليه ونحن ملتقون عند رب العالمين، إن شاء الله، ولا أقدر اليوم على لقائه وأريد الرجوع فدعت بطيب فطيبت لحيته فقال لها: أما إنها ستخضب بدم، فقالت: من أنبأك هذا؟ قال: أنبأني سيدي فبكت أم سلمة وقالت له: إنه ليس بسيدك وحدك هو سيدي وسيد المسلمين، ثم ودعته فقدم الكوفة فأخذ وأدخل على عبيد الله بن زياد. وقيل له: هذا كان من آثر الناس عند أبي تراب قال: ويحكم هذا الأعجمي! قالوا: نعم فقال له عبيد الله: أين ربك؟ قال: بالمرصاد قال قد بلغني اختصاص أبى تراب لك قال: قد كان بعض ذلك فما تريد؟ قال وإنه ليقال إنه قد أخبرك بما سيلقاك قال نعم، إنه أخبرني، قال: ما الذي أخبرك أنى صانع بك؟ قال: أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة وأنا أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهرة، قال: لأخالفنه، قال: ويحك! كيف تخالفه، إنما أخبر عن رسول الله ص، وأخبر رسول الله عن جبرائيل، وأخبر جبرائيل عن الله، فكيف تخالف هؤلاء! أما والله لقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه أين هو من الكوفة؟ وإني لأول خلق الله ألجم في الإسلام بلجام، كما يلجم الخيل. فحبسه وحبس معه المختار بن أبى عبيدة الثقفي، فقال ميثم للمختار وهما في حبس ابن زياد: إنك تفلت وتخرج ثائرا بدم الحسين (ع) فتقتل هذا الجبار الذي نحن في سجنه، وتطأ بقدمك هذا على جبهته وخديه. فلما دعا عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد، يأمره بتخلية سبيله، وذاك أن أخته كانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب، فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد فشفع فأمضى شفاعته، وكتب بتخلية سبيل المختار على البريد، فوافى البريد، وقد أخرج ليضرب عنقه، فاطلق. وأما ميثم فأخرج بعده ليصلب. وقال عبيد الله: لأمضين حكم أبي تراب فيه، فلقيه رجل فقال له: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم؟ فتبسم، وقال: لها خلقت ولي غذيت فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، فقال عمرو: لقد كان يقول لي: إني مجاورك، فكان يأمر جاريته كل عشية أن تكنس تحت خشبته وترشه وتجمر بالمجمر تحته فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم، ومخازي بنى أمية وهو مصلوب على الخشبة فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه، فألجم فكان أول خلق الله ألجم في الإسلام، فلما كان في اليوم الثاني فاضت منخراه وفمه دما، فلما كان في اليوم الثالث طعن بحربة فمات. وكان قتل ميثم قبل قدوم الحسين (ع) العراق بعشرة أيام.

كان علماء مدرسة أهل البيت (ع) دوما في دائرة الاستهداف من قبل نفس القوى التي حاربت الأئمة وقتلتهم بدءا من علي بن أبي طالب ثم الإمام الحسن والحسين وبقية الأئمة كون هؤلاء العلماء هم حراس هذه العقيدة والمدافعون عنها والمسئولون عن إبلاغها للدنيا بأسرها.

تعرض الكثير من هؤلاء العلماء للحصار والتضييق كما سلطت عليهم أدوات الإعلام الطائفية البغيضة من أجل تسقطيهم في أعين الناس وتأسيس حاجز نفسي يمنع التواصل بينهم وبين المستضعفين من جماهير الأمة فهاهو ابن كثير يروي كيف سجد أبو القاسم الخفاف، المعروف بابن النقيب، لله شكرا عندما بلغه موت الشيخ المفيد‏ وجلس للتهنئة وقال‏:‏ ما أبالي أي وقت مت بعد أن شاهدت موت ابن المعلم‏!!.‏

نفس الشخوص هي التي أقدمت بعد ذلك على إحراق بيت الشيخ الطوسي ومكتبته عاما كاملا بعد تركه بغداد واستقراره في النجف الأشرف حيث يروي ابن الجوزي في المنتظم: وفي صفر سنة 449هـ‏:‏ كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ وأخذ ما وجد من دفاتره وكرسي كان يجلس عليه للكلام وأخرج ذلك إلى الكرخ وأضيف إليه ثلاثة مجانيق بيض كان الزوار من أهل الكرخ قديمًا يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة فأحرق الجميع‏.‏

لم يكن الحقد والكراهية التي يكنها هؤلاء الغوغاء تجاه أهل البيت ونهجهم الفقهي والفكري والعقائدي قاصرا على البشر حيث امتد لإحراق الكتب التي حوت بين صفحاتها تراثا فكريا وأخلاقيا لا يخص طائفة دون طائفة ولا بدين دون دين بل هو ملك للإنسانية بأسرها خاصة ذوي الألباب منهم!!.

ولكن ما عسانا نصنع في أناس نزعت عقولهم وأبصارهم فكانوا بحق كما وصفهم ربنا عز وجل: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) .

المرجعية ودورها في حفظ الدين

يقول تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) .

ويقول سبحانه: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) .

(شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) .

المعنى الواضح الذي تشير إليه هذه الآيات المحكمات هو ضرورة الاجتماع على كلمة سواء في أمور الدين وأن الاختلاف والتفرق هو ضرر بالغ يضرب الأمة في صميم كيانها على عكس ما يروج له البعض من أن (اختلافهم رحمة)!!.

وإذا كان الاختلاف رحمة فالاجتماع والتوحد لا بد أن يكون نقمة!!.

كيف هذا والآيات والقرآنية تحض على جمع الكلمة ورص الصفوف وتحذر من الخلاف والفرقة؟!.

يقول الإمام علي ابن أبي طالب: ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام، فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوب آراءهم جميعا وإلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد. أ فأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه! أم نهاهم عنه فعصوه! أم أنزل الله سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه! أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى! أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، (وفيه تبيان كل شيء ) وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا، وأنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه : (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا), وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق, لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به .

لا يمكننا أن نقبل بمبدأ التفرق والاختلاف على حساب الوحدة والاجتماع إلا بعد أن نبذل أقصى ما لدينا من جهد لتوحيد الصف وجمع الكلمة والوصول إلى الحقيقة لأن الله تبارك وتعالى أمرنا بالوحدة ونهانا عن الخلاف ولأنه سبحانه تعالى لم يأمرنا بشيء يفوق قدرتنا بل ويسر لنا سبل الوحدة وجمع الكلمة ولذا يقول سبحانه: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) . 

لذا جاء المعنى واضحا في سورة الشورى وبعد أن أمر الله تبارك وتعالى بالتوحد في الدين وعدم التفرق مبينا سبب التفرق والخلاف حيث يقول سبحانه: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) .

فلذلك فادع: أي لجمع الكلمة على التقوى, واستقم كما أمرت: أي على الصراط المستقيم والنهج القويم, نهج الكتاب والعترة الطاهرة, ولا تتبع أهواءهم التي فرقتهم طرائق قددا, وذرهم في غمرتهم حتى حين!!.

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ) .

إنهم يحاجون في الله ويجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق زاعمين أن الله تبارك وتعالى ترك المؤمنين دون أن يرسم لهم نهجا واضحا يقيمون به الدين فلا ولاية لأهل البيت بل شورى والأمة تختار لنفسها ما أحبت واشتهت ورضيت واختارت من أئمة يراهم القوم أهدى من آل محمد سبيلا ثم هم يرفضون المرجعية الدينية التي هي في حقيقتها امتداد لأئمة أهل البيت ونيابة عنهم وتمسكا بنهجهم القويم.

حينما يتعلق الأمر بالنص الإلهي ينتصب أكابر مجرميها رافضين (الوصاية الإلهية عليهم) وحينما يتعلق الأمر بدور يقوم به الجمع المؤمن ويكون امتدادا لهذا الوحي الملزم يعودون للنص الإلهي ويفترون على الله الكذب زاعمين أن الله تبارك وتعالى فوض لهم أمر دينهم يفعلون فيه ما يحلو لهم من دون علم ولا هدى ولا كتاب منير!!.

ترى لو لم يكن ذلك النظام الرباني الذي يجعل للمرجعية القوامة والنيابة على شأن الأمة من قبل أئمة أهل البيت عليهم السلام, كيف سيصبح حال المسلمين بعد أن تفرقوا ليس في أمور الفقه والأحكام وحسب بل زعم زاعمهم بأن لله تبارك وتعالى يد ورجل وخمس أصابع؟!.

ألم يكن من الطبيعي أن ينتهي أمر المسلمين إلى التثليث أو القول بتعدد الآلهة كما فعل الذين من قبلهم قاتل الله هؤلاء وهؤلاء أنى يؤفكون وخاصة بعد أن اتخذ القوم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله يحلون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال فصار هؤلاء (الفقهاء) من وعاظ السلاطين أربابا من دون الله (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) .

 

الإمام, المرجعية, الأمة

لا شك أن الدين هو نظام تراتبي يؤدي فيه كل فرد من أفراد المجتمع المؤمن دوره في إطار من التكامل والتعاون (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .

ليس هناك فرد في المجتمع المسلم لا يقدر على القيام بدور إيجابي نافع لصالح الأمة بأسرها مهما صغر شأنه شريطة احترام العلم والعلماء.

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) .

إنها تراتبية علمية وأخلاقية تضع كل إنسان في موقعه الذي يمكن من خلاله أن يقدم أكبر نفع ممكن للمجتمع وللبشرية بأسرها.

ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاة، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِق يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيح، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْن وَثِيق.

ثم يقول: اللَّهُمَّ بَلَى! لاَ تَخْلُو الأرْضُ مِنْ قَائِم لله بِحُجَّة، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ.

وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولئِكَ؟ أُولئِكَ ـ وَاللَّهِ ـ الأقَلُّونَ عَدَداً، وَالأعْظَمُونَ قَدْراً، يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ، وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَان أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْـمَحَلِّ الأعْلَى، أُولئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ، آهِ, آهٍ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ!

لا نشك لحظة واحدة أن مراجعنا العظام يقعون في هذه الطبقة العالية طبقة العلماء الربانيين, الأقلين عددا الأعظمين قدرا الذين يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم وهم الذين هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ، وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَان أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْـمَحَلِّ الأعْلَى.

أما غيرهم فقد ارتمى في أحضان السلاطين يعاقر الخمر ويفتي بشرعية حكام الجور ويدعو للسمع والطاعة للظالمين ما أقاموا الصلاة أو ما لم يعلنوا الكفر البواح!! وما حاجتهم لإسقاط ورقة التوت التي تستر عورتهم؟!.

 

الهجوم على المرجعية

لا مجال هنا لاستعراض كامل تاريخ المرجعية الدينية ومواقفها التي حفظت الإسلام ومنعت استشراء انحراف الإسلام عن مساره وتحويله إلى انحراف أبدي ويكفي أن نستعرض الواقع المعاصر ليعرف الجميع أن دور المرجعية لم يكن في خدمة طائفة واحدة من المسلمين بل في خدمة الجميع.

المأساة الكبرى التي تواجه المسلمين الآن هي حالة التشظي التي تعيشها الحالة الإسلامية الفكرية على يد تلك الجماعات والهيئات التي أنشأتها وأسستها المؤسسات السلطوية قديما وحديثا وهي المسئولة أولا عن انحراف المسلمين عن المسار الصحيح للإسلام.

الآن أصبح لدينا العديد من الهيئات والمؤسسات التي تدعي كلها امتلاك الفهم الشامل الكامل للدين من دون أن تقدم أي أدلة أو براهين على صحة هذه الدعاوى.

لدينا مؤسسات تقدم نفسها تحت عنوان الوسطية وأخرى تحت عنوان الإسلام المعتدل وثالثة تقدم نفسها تحت عنوان الإسلام الليبرالي وهلم جرا!!.

أما من الناحية الواقعية فلا شيء من هذه الدعاوى يثبت في أرض الواقع.

قبل أسابيع طلع علينا أحد شيوخ الأزهر بفتوى (رضاع الكبير) وكأن الرجل قد نجح في فتح عكا وكان أن انتهى الأمر بسجال طويل كان الخاسر الأكبر فيه هو الإسلام ذاته الذي ابتلي بهذا النوع من المفتين الجهلة الذين لا يحسنون إلا فتح كتب التراث واستخراج ما قل منه خير مما كثر وتحويله إلى فتوى تملأ وسائل الإعلام صخبا وضجيجا فارغا.

لم يمل القوم من إنشاء المؤسسات والهيئات التي يدعي كل منها الوسطية والقوامة على الفهم الصحيح للدين والتي تستهلك أموالا طائلة ثم ما تلبث كلها أن تضاف إلى لائحة موتى الجمادات التي لا ترجو بعثا ولا نشورا ولكنها ترجو الثواب الدنيوي الجزيل والبقاء الطويل.

 

لا فارق بينها وبين أبي الهول!!.

في مثل هؤلاء وغيرهم كانت كلمات الإمام علي بن أبي طالب النورانية: وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَلَيْسَ بِهِ فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّلٍ وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وَقَوْلٍ زُورٍ قَدْ حَمَلَ اَلْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ وَعَطَفَ اَلْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ يُؤَمِّنُ (اَلنَّاسَ) مِنَ اَلْعَظَائِمِ وَيُهَوِّنُ كَبِيرَ اَلْجَرَائِمِ يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ اَلشُّبُهَاتِ وَفِيهَا وَقَعَ وَيَقُولُ أَعْتَزِلُ اَلْبِدَعَ وَبَيْنَهَا اِضْطَجَعَ فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ وَاَلْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ لاَ يَعْرِفُ بَابَ اَلْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ وَلاَ بَابَ اَلْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ .

الأمر إذا لا يتعلق بجدل السياسة والديموقراطية بل بطبيعة الدين التي يتعين أن تبقى واضحة قاطعة لا مجال فيها للبس والأخذ والرد ليتفرغ المسلمون لما هو أجدى لهم في شئون حياتهم اليومية والمتغيرة وليحاولوا إقامة العدل ومحاربة الظلم والحفاظ على استقلالهم بدلا من الانشغال بتلك التفاهات وبتلك الصغائر فاليوم معركة رضاع الكبير وغدا معركة معركة زواج المسيار وبعد غد معركة زواج البوي فريند وكلها أمور ستوالي ظهورها بسبب غياب المرجعية الدينية الربانية واستيلاء تلك المرجعيات المبتسرة على الساحة بمساعدة من شياطين السلطة الذين لا هم لهم إلا إشغال الناس بتفلية رؤوسهم من القمل وشتى أنواع الجرب التي تقوم هي باستيراده وتوزيعه حتى لا يفكر أحد أبعد من فروة رأسه!!.

الآن تدور رحى حرب ضارية حول ما يسمى بمراجعات الجهاد وها هم القوم قد سلوا أسلحتهم أو ألسنتهم يتبادلون وثائق السب والشتم فيما بينهم فهذه وثيقة تبرئة وتلك وثيقة تعرية, كل هذا برعاية شياطين السلطة الذين لا هم لهم إلا تلويث كل من يفكر في معارضتهم خاصة إن كان من ذلك النوع المشار إليه في خطبة الإمام علي بن أبي طالب التي أوردناها سابقا.

في يوم ‏21‏/11‏/2008 طلعت علينا بعض الصحف ببيان يدعو فيه الموقعون (إلى مراجعات فكرية لأركان أساسية في المعتقدات الشيعية ومنها نظرية ولاية الفقيه، معلنين رفضهم نظام المرجعية والتقليد. وطالب هؤلاء أبناء الشيعة في كافة الدول العربية بالتوقيع على البيان ليكون حجر الأساس لبدء عهد جديد من العلاقة الايجابية المثمرة بين الشيعة العرب ودولهم الوطنية وإخوتهم المواطنين فيها. وذكر البيان الذي حمل عنوان (نحو تصحيح مسار الطائفة الشيعية في الوطن العربي)، 18 بندا تدعو لمراجعات فكرية وعقيدية وسياسية تتعلق بأركان أساسية في المعتقدات الشيعية خصوصا مسألة التقليد وإعطاء الخمس لرجال الدين وممارسات التطبير والدق على الصدور في طقوس عاشوراء ونظرية ولاية الفقيه.

فات القوم أن بعض هذه الأشياء التي ينتقدونها مثل ما يجري في ذكرى عاشوراء من تطبير قد جرى بالفعل انتقادها واتخاذ مواقف قبلها من عدد من المراجع كما أنها لا تمثل الركن الأساسي ولا الأهم للحدث وهو إبقاء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي عليه السلام حية في ذاكرة ووجدان الأمة الإسلامية.

يطالب القوم بإلغاء الاحتفال بذكرى استشهاد الإمام الحسين ولا يطالبون فضائيات الوهابيين بالكف عن ذكرياتهم الخرافية الوهمية مثل رجل عروة بن الزبير التي قطعت أثناء خشوعه في الصلاة أو قصة أبي قتادة وأم قتادة التي أخفت نبأ وفاة ابنها وفلذة كبدها على أبي قتادة لأنه عاد من السفر متعبا وكان من الضروري أن يقضي منها وطره أولا قبل أن تبلغه بالخبر غير المهم!!.

وهكذا الدين الصحيح ونهج السلف الصالح رضوان الله عليه كما يزعمون!!.

بعض الشيعة يطبرون رؤوسهم بالسيف وهم قلة عددية أما الغالبية فيحفظون الذكرى والقضية وهي أمر جوهري والتطبير هو مجرد مشهد على الهامش لا يؤثر بحال في الجوهر والمضمون.

لو كان الآخرون يؤمنون بالمضمون (الشهداء أحياء عند ربهم) فلماذا لا يحيون الذكرى ولماذا يحرصون على طمسها ولماذا يحاربون من يسعى لإحيائها رغم ألا أحد من مواطنيهم يطبر أو حتى يجرؤ على الخروج إلى الشارع ليحيي هذه الذكرى؟!.

أليس يزعمون أن مشكلة الشيعة هي غيبة الديموقراطية لديهم وانصياعهم للمرجعية؟!.

ألا تبيح الديموقراطيات في العالم المتحضر للجماهير حق التجمع وإحياء المناسبات وإقامة الكرنفالات الشعبية التي لا يعرف أصحابها لها أصلا مثل الهولوين وغيرها؟!.

وبينما يحتفي الشيعة بذكرى استشهاد سيد شباب أهل الجنة ويحرصون على بيان سبب خروج واستشهاده وهي قضية لا تخص الشيعة وحدهم بل هي قضية كل أحرار العالم نرى تلك التيارات الدينية المبتسرة تحض أتباعها على الالتزام الديني الشكلي وتقصير الثياب وإطلاق اللحى من دون قيد ولا شرط لعل الله تبارك وتعالى يرضى عنهم فتتحرر فلسطين ويرزقهم الله تبارك وتعالى بحاكم عادل يطبق أحكام الشريعة الإسلامية!!.

لم يكن الإبقاء على مراسم عاشوراء وإحيائها سنويا مجرد تعبير عن حالة عاطفية وجدانية بل حفاظا على وجود الشيعة وانتمائهم في مواجهة العواصف والأعاصير التي تهدف لاقتلاعهم من جذورهم.

يقول الإمام الخميني في إحدى خطبه بهذه المناسبة: إن ما أود أن أعرضه على السادة الخطباء هنا هو أن قيمة العمل الذي يقومون به ومدى أهمية مجالس العزاء لم تدرك إلا قليلاً، ولربما لم تدرك بالمرة فالروايات التي تقول إن كل دمعة تذرف لمصاب الحسين عليه السلام لها من الثواب كذا وكذا، وتلك الروايات التي تؤكد أن ثواب من بكى أو تباكى... لم تكن من باب أن سيد المظلومين عليه السلام بحاجة إلى مثل هذا العمل، ولا لغرض أن ينالوا هم وسائر المسلمين هذا الأجر و الثواب بالرغم من أنّه محرٌز ولاشك فيه حتماً، ولكن لِم جعل هذا الثواب العظيم لمجالس العزاء؟ ولماذا يجزي الله تبارك وتعالى من بكى أو تباكى بمثل هذا الثواب والجزاء العظيم؟.

إن ذلك يتضح تدريجياً من ناحيته السياسية وسيعرف أكثر فيما بعد إن شاء الله، إن هذا الثواب المخصص للبكاء ومجالس العزاء، إن هناك علاوة على الناحية العبادية والمعنوية ناحية سياسية، فهناك مغزى سياسي لهذه المجالس. لقد قيلت هذه الروايات في وقت كانت هذه الفرقة الناجية مبتلاة بالحكم الأموي وأكثر منه بالحكم العباسي وكانت فئة قليلة مستضعفة تواجه قوى كبرى.

لذا وبهدف بناء هذه الأقلية وتحويلها إلى حركة متجانسة، اختطوا لها طريقاً بناءً، وتم ربطها بمنابع الوحي، وبيت النبوة وأئمة الهدى عليهم السلام فراحوا يخبرونهم بعظمة هذه المجالس واستحقاق الدموع التي تذرف فيها الثواب الجزيل مما جمع الشيعة  على الرغم من كونهم آنذاك أقلية مستضعفة في تجمعات مذهبية ولربما لم يكن الكثير منهم يعرف حقيقة الأمر، ولكن الهدف كان بناء هيكل هذه الأقلية في مقابل الأكثرية.

وطوال التأريخ، كانت مجالس العزاء  هذه الوسائل التنظيمية  منتشرة في أرجاء البلدان الإسلامية، وفي إيران التي صارت مهداً للإسلام والتشيع أخذت هذه المجالس تتحول إلى وسيلة لمواجهة الحكومات التي توالت على سدة الحكم ساعية لاستئصال الإسلام وقلعه من جذوره، والقضاء على العلماء، فهذه المجالس والمواكب هي التي تمكنت من الوقوف بوجهها وإخافتها.

المهم في الأمر هو البعد السياسي لهذه الأدعية وهذه الشعائر، المهم هو ذلك التوجه إلى الله وتمركز أنظار الناس إلى نقطة واحدة وهدف واحد، وهذا هو الذي يعبئ الشعب باتجاه هدف وغاية إسلامية فمجلس العزاء لا يهدف للبكاء على سيد الشهداء عليه السلام والحصول على الأجر  وطبعا فإن هذا حاصل وموجود الأهم من ذلك هو البعد السياسي الذي خطط له أئمتنا عليهم السلام في صدر الإسلام كي يدوم حتى النهاية وهو الاجتماع تحت لواء واحد وبهدف واحد، ولا يمكن لأي شيء آخر أن يحقق ذلك بالقدر الذي يفعله عزاء سيد الشهداء عليه كونوا على يقين من أنه لو لم تكن مواكب العزاء هذه موجودة ولو لم تكن لم يكن لأية قدرة إمكانية تفجير انتفاضة 15 خرداد سوى دم سيد الشهداء عليه السلام، كما ليس بإمكان أية قوة أن تحفظ هذا الشعب الذي هجمت عليه القوى العدوانية من كل حدبٍ وصوب وتآمرت عليه سوى مجالس العزاء هذه.

إن هذه المجالس التي تُذكر فيها مصائب سيد المظلومين عليه السلام وتظهر مظلومية ذلك المؤمن الذي ضحى بنفسه وبأولاده وأنصاره في سبيل الله، هي التي خرجت أولئك الشبان الذين يتحرقون شوقاً للذهاب إلى الجبهات ويطلبون الشهادة ويفخرون بها، وتراهم يحزنون إذا هم لم يحصلوا عليها.

هذه المجالس هي التي خرجت أمهات يفقدن أبناءهن ثم يقلن بأن لديهن غيرهم وأنهن مستعدات للتضحية بهم أيضاً.

إنها مجالس سيد الشهداء عليه السلام ومجالس الأدعية من دعاء كميل وغيره، هي التي تصنع مثل هذه النماذج وتبنيها، وقد وضع الإسلام أساس ذلك منذ البداية وعلى هذه الركائز، وقدر له أن يتقدم وبشق طريقة وفق هذا المنهج. انتهى.

لو كان هؤلاء التصحيحيون يتابعون ما يجري في ساحة (الفكر الإسلامي) وقرءوا الجدل الدائر بين الظواهري والدكتور فضل لاكتشفوا حجم الضحالة الفكرية التي يعاني منها المسلمون المستضعفون الواقعون تحت الهيمنة الفكرية الأموية!!.

يقول الدكتور فضل في مراجعاته (الأموية الخوارجية) المسماة بوثيقة التعرية عارضا ل(أركان مذهب القاعدة في الإسراف في سفك الدماء):

ومن أجل قتل أكبر عدد ممكن من الأمريكان خارج بلدهم وداخلها كان لا بد لهم من القفز فوق بعض الثوابت الشرعية، فتم للقاعدة ذلك بحزمة من النظريات والمبادئ الفاسدة ومن أهمها: تحويل محاربة أمريكا من قضية شخصية إلى قضية الأمة الإسلامية كلها (؟!)، واعتمد بن لادن من أجل تحقيق ذلك على جانبين: جانب دعائي إعلامي: وهو ترويج فكرة فاسدة بأن أمريكا هي سبب كل مصائب المسلمين، وكان لا بد له من إلحاق اليهود بذلك لأن قضية فلسطين هي الأكثر حضورًا لدى الجماهير.

ومن أجل ذلك وضعوا المبادئ الإجرامية التالية وأولها أن قتال العدو البعيد «أمريكا» أهم من قتال العدو القريب.

أما قولهم «إن أمريكا واليهود هم سبب مصائب المسلمين فإن مصائب المسلمين هي بسبب المسلمين أنفسهم هذا كلام الله ومن أنكره فقد كفر (لاحظ؟!)، لما هُزم المسلمون في غزوة أحد لم يقل الله لهم إن هذا بسبب كفار قريش، وإنما قال إنه بسبب ذنوبهم، وإنما يسلط الله الكفار على المسلمين ليعاقبهم بذنوبهم كما قال عُمر بن الخطاب يوصى جنوده «ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدوّنا شرّ منا فلن يُسلط علينا، فرُبّ قوم قد سُلِّط عليهم من هم شرّ منهم، كما سلّط الله كفار المجوس على بنى إسرائيل لما عملوا بمساخط الله «فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً» الإسراء 5 أهـ.

الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى بريئة من مصائب المسلمين براءة كفار قريش مما أصاب المسلمين يوم أحد!!.

 

ونعم العقل والمنطق!!.

ورغم أننا نختلف مع من يعلقون كل مصائب العرب والمسلمين في رقبة الغرب والولايات المتحدة إلا أن الزعم بأن سبب هذه المصائب خاصة تلك المعاصرة تعود إلى الذنوب والمعاصي التي يرتكبها المسلمون البسطاء هو هرطقة يعتاش عليها التيار السلفي الذي يروج لما يسميه بالالتزام الديني الشكلي المتمثل في اللحية والنقاب والصلاة في جماعة ويتجاهل قيم الإسلام الكبرى المتمثلة في العدالة والحرية والمساواة بين البشر ناهيك عن الجهل والتخلف الثقافي والعلمي والتي لولا غيابها الطويل لما تمكن الغرب من احتلالنا والتحكم في مصائرنا وثرواتنا وإبرام التحالفات النفعية مع الطبقات الحاكمة من أجل إدامة هذه الهيمنة الغربية التي لا ينكرها إلا غبي أو جاهل!!.

ألم يحمل الدكتور فضل, الظواهري المسئولية عن خدمة مصالح أمريكا وإسرائيل قائلا (الذين يخدمون مخططات أمريكا واليهود هم الذين أدخلوها أفغانستان والعراق وتسببوا في مقتل مئات الآلاف فيهما)!!.

أي أن أمريكا وإسرائيل لهما خطط ومصالح تسعيان لتحقيقها في المنطقة ولن تجد أغبى من الذين (ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) لتمرير هذه المخططات وتوفير المبررات لاحتلال أفغانستان ومن بعده العراق!!!.

وبينما يؤكد الشيعة في العاشر من محرم في كل عام على أن الظلم والظالمين هم أعدى أعداء المسلمين سواء كانوا من الأمريكيين أو من الأمويين نرى القوم يرددون مقولات الإرجاء الأموي مطالبين الناس بالتوبة من الذنوب وتقصير الثياب فربما يتوفر الخبز وربما يجلو الصهاينة عن فلسطين!!!.

أما عن ولاية الفقيه وبالرغم من أنها نظام سياسي إيراني بامتياز وبرغم أنها غير قابلة للتطبيق في غيرها من البلدان فلا شك أنها تمثل نهضة لعلماء الدين الذين تمكنوا من تحقيق ما عجز عنه الديموقراطيون والإسلاميون الليبراليون والمعتدلون والوسطيون وو غيرهم من حملة الألقاب والعناوين الذين يراوحون مكانهم ويعتاشون على الأماني في انتظار أن تحملهم سفينة (الغرب الكافر) إلى سدة الحكم والرئاسة كما حملت الوهابيين من قبلهم!!.

ورغم أننا ممن يعتقدون بضرورة تطوير الأداء المرجعي ودفعه أكثر فأكثر نحو العمل المؤسساتي إلا أن هذه الدعوة ليست اختراعا من قبل كاتب هذه السطور ومن باب أولى من الموقعين على هذا البيان المذكور.

الدعوات التصحيحية انطلقت بالفعل من داخل المرجعية ولا بأس أن تنطلق أيضا من خارج إطار المرجعية من الجمهور الشيعي لأنه في الحقيقة جمهور واع وليس مجرد قطيع ينساق وراء قائده في أي اتجاه يدفع إليه.

27/5/1231

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
آخر الاضافات
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك