دراسات

علماء الإسلام وأثرهم في التصدي للإستعمار مطلع القرن العشرين

11051 18:56:00 2010-01-01

حسن الهاشمي

المقدمة:ان للفكر والثقافة الاسلامية أثرا فاعلا في تحريك الجماهير، وتأجيج النفوس للثورة ضد الظلم والاستبداد والاعتساف‎، أياً كان مصدره‎، سواء أكان استعماراً أجنبياً كافراً، أو حكماً مستبداً ظالماً، او ملكاً فاسداً، لا فرق في ذلك فان كل من ينزُّ للسيطرة والاخضاع‎ والافساد، لمصالح شخصية أو لأهواء ذاتية أو لدوافع شيطانية‎، فان الفكر الاسلامي له‎ بالمرصاد، يكشف عوراته ويدحض أباطيله‎، ويرأب الصدع الذي قد يحدثة في أوساط‎ المجتمع الاسلامي.فالاسلام وبما يحمل من أفكار متعالية وقيم سامية‎، كالتنظيم الدقيق للحياة الاجتماعية‎ والاقتصادية والسياسية بين الافراد، وإطلاق الحريات التي تضمن سعادة البشر في الدارين‎، ونبذ العنصرية بشتى اشكالها، والمساواة والعدالة وتهذيب النفس والمروءة والاحسان والرأفة والإخاء والتعاون وغيرها الكثير من الاحكام التي لها بالغ الاثر في صيأنة الامة من الانحراف‎ والتيه والضياع‎، فأنه قادر على تلبية مطالب الامة في الحرية والانعتاق والرفعة والكرامة‎ والسيادة‎.وطالما أن الامة الاسلامية تحمل بين جنباتها تراثاً عظيماً ومتكاملاً، فانها قادرة على‎ التصدي للأزمات الداخلية والخارجية التي تعصف بها، وهي قادرة أيضاً على التفاعل وبشكل‎ مستمر مع القيادة العلمائية المخلصة التي تمثل السماء وأخلاق الانبياء وصفح النبلاء.ان التفاعل الحيوي والمثمر بين العلماء والامة له ابعاد حقيقية لا تقتصر على حياة الانسان‎ الدنيوية فحسب‎، بل تتعداها الى الحياة الابدية في الآخرة، وان هذا التفاعل تربطه أواصر أوثق‎ من الصلات التي تربط بين القيادة والامة في المجتمع المادي، البعيد عن قداسة الوجود وكمالات النفس ومراتب الاخلاق والمناقب الانسانية‎.فيمكن أن تكون الاواصر المادية مقتصرة على المنافع الشخصية الآنية دونما ملاحظة قيم‎ وأخلاق وتعهدات‎، بيد أن هذه المعاني يمكن مشاهدتها بوضوح في العلاقة التي تربط بين الامة‎ الاسلامية وعلمائها الابرار من جهة‎، وبين المسلمين في تعاملهم مع بعضهم البعض‎، وفي تعاملهم مع الشعوب وبقية الأطر الفكرية والثقافية السائدة في العالم من جهة ثانية‎، وكيفية‎ التعاطي مع الاحداث والازمات والوقائع حسبما تتطلبة الظروف القاهرة، وحسبما تقتضية‎ الإمكانات المتاحة من جهة ثالثة‎.فلو أخذنا شعب العراق أبان ثورة العشرين بنظر الاعتبار فأنه قد عاش في كنف قائد قادر على أن يحقق له آمالة ويخفف عنه آلامه‎، انه إلتف حول قيادة الامام الشيخ محمد تقي الشيرازي، الذي جمع بين ذرابة السيف وذلاقة القلم‎، ذلك القائد الذكي والسياسي الشريف‎، الذي انتهل من ينبوع الاسلام الخالد، استطاع من أن يجنّد كل الطاقات ويشحذ كل الهمم في مدة قصيرة‎، ويخلّص العراق وشعبه من سيطرة الاستعمار المباشرة بعد سنتين من توليّه الزعامة الدينية والسياسية في المجتمع الاسلامي العراقي، في حين أن دولاً أخرى أبان حملة الاستعمار قد استسلمت لرقاد طويل، دام في بعضها زهاء قرن كامل من الزمن‎.الجهود كلها تظافرت آنذاك للقيام بالثورة العتيدة‎، شعب ساخط‎، قائد ملهم‎، طبقة قيادية ميدانية من علماء الدين وبعض الوطنيين الاحرار، طلائع الامة المضحية‎، جماهير مؤمنة‎ بالقيادة الرشيدة‎، قرارات حكيمة صادرة عن تلك القيادة‎، منهج عمل واضح‎، كل هذه المقومات‎ تظافرت وتوالدت على ضفافها قناديل الامل نحو الاصلاح والتغيير والانعتاق من كل ظلم‎ وتعسف وعلى مر العصور.ولكي لا نطيل في قراءة صفحات المجد الغابر والتباكي على الايام الخوالي، ولكي نستلهم‎ من الصحوة الاسلامية دروس البطولة والفداء والتضحية، ولكي نقف على أهم الروافد الفكرية‎ والثقافية التي كانت تقف وراء تلك الصحوة، إليك- عزيزي القارئ - هذه الدراسة التحليلية‎ عن الظروف التي كانت تكتنف المجتمع الاسلامي آنذاك وأهم المرتكزات الفكرية التي انطلق‎ ذلك المجتمع وقادته من خلالها، لمكافحة ظاهرة الاستعمار السياسي والعسكري والثقافي.الهجوم الغاشم:يمكن اعتبار الفترة الممتدة بين النصف الاول من القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن‎ العشرين هي بداية الغزو العسكري الغربي لبلاد الشرق الاسلامي - العربي.ولم يأت هذا الغزو اعتباطاً، وانما كانت ثمة مؤهلات تحضيرية قد مهدت الطريق أمام‎ جحافل الغزو الاوروبي للبلاد الاسلامية‎، ومن أبرز تلك المؤهلات الضعف والخور الذي انتاب‎ الامبراطوريتين العثمانية والايرانية اللتين كانتا تمثلان قطب الرحى التي تدور حولهما دول‎ العالم الاسلامي آنذاك.ففي أواخر عهدها أصبحت الدولة العثمانية جسداً ينخر فيه السوس‎، نتيجة لضعف الحكام‎ فيها وعجزهم عن اصلاح الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الولايات الممتدة‎ تحت ظل الامبراطورية هذه.وهذا أدى بدوره الى تدهور حاد في الوضع الاقتصادي والعمراني بشكل خاص، حيث‎ كانت المجاعات تدور في اطراف البلاد، والجفاف يضرب الاراضى المزروعة، فيدعها قاعا صفصفا؛ وجيش الفقراء يزداد كل يوم‎، والبحث عن الخبز لا يواجه إلا بمزيد من المطالبة بالضرائب من أجل تموين الجيش التركي (عباس محمد كاظم - ثورة الخامس عشر من شعبان - ص 17)ليت الامر يقف عند هذا الحد، فالاستبداد بلغ ذروته في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، اما الارهاب والظلم الذي مارسته جمعية الاتحاد التركية بحق الشعوب الاسلامية‎، فحدِّث ولا حرج‎.فالحكومة التركية أرادت من خلال هذه الجمعية تتريك الولايات الخاضعة تحت النفوذ العثماني، لذلك كانت العنصرية والدعوة الى القومية التركية أحد أهم سمات تلك الجمعية‎، التي ومنذ تأسيسها ما انفتأت تعزف على هذا الوتر الحساس والخطير في نفس الوقت‎، مما أدّى الى‎ ظهور تيار مضاد في الدول الخاضعة تحت النفوذ العثماني، يدعو الى القومية العربية‎، كما سيأتي تفصيله لاحقاً.بالاضافة الى ما ذكر فإن‎َّ الدولة العثمانية‎، ومنذ أن سيطرت على العراق في مطلع القرن‎ السادس عشر الميلادي، منحت الشركات الاوروبية امتيازات سخية (منحت الدولة العثمانية الامتيازات للانجليز للمرة الاولى عام 1580م‎، إلا أن المصنع الذي أنشأه الانجليز في البصرة عام‎ 1643م كان يعتبر بداية لتاريخ النفوذ الانجليزي في العراق).وهذه الامتيازات شكلت بدورها مدخلاً مهماً لتغلغل النفوذ والمصالح الاوروبية في الدولة‎ العثمانية وولاياتها ومنها العراق ‎)عبد الحليم الرهيمي - تاريخ الحركة الاسلامية في العراق ص 45 (.ولم يقف التغلغل الاوربي الى هذا الحد بل تعداه الى محاولة مسخ هوية الشعوب الاسلامية‎ العربية، فقد اتخذ هذا التغلغـل في الولايات العراقية العثمانية مظاهر عدة؛ كان ابرزها التثبيت‎ للنفوذ الاقتصادي والسياسي، الذي ترافق معه نشاط تبشيري وثقافي بارز (نفس المصدر السابق ص 45).بيد أن هذا النشاط‎، وعلى الرغم من امكانياته الضخمة‎، واستعداداته الهائلة بقي محصوراً بين جدران الكنائس وأروقة المعابد اليهودية‎، بالاضافة الى التأثير المحدود الذي خلَّفة على‎ بعض اصحاب النفوس المتهرئة من جيل الشباب، الذي انبهر بالتقدم الصناعي والعسكري للغرب‎، دونما يحدث شرخاً عميقاً في عقيدة الشعب العراقي ككل‎، وبالعكس من ذلك فقد التف‎َّ الشعب بأسره حول قيادة علماء الدين‎، واستوحى منهم دروس العقيدة والجهاد في مقارعة‎ الغزاة الطامعين‎، وابلى في مواجهة العدو الغازي بلاء حسناً في كثير من المواقع (السيد عبد الشهيد الياسري - البطولة في ثورة العشرين - راجع ثورة الرميثة ص 191، حصار الثوار لحامية ابي صخير ص 199، معركة الرارنجية ص 205). بالرغم من امكاناته المحدودة اذا ما قورنت بامكانات العدو الهائلة عدداً وعدة وتنظيماً.ولم تكن حال الامبراطورية الايرانية بأفضل من العثمانيين‎، بل في بعض الاحيان كانت‎ ايران تتبع سياسة اكثر ضعفاً واستسلاماً للغرب‎، كما كان الامر في العهد القاجاري، ففي أواخر هذا العهد وبعد أن اعتلى الحكم (فتح علي شاه‎) أصبحت ايران ككرة القدم في ملعب السياسة الدولية بين روسيا وبريطانيا، فمرة تسقط في احضان النفوذ الروسي، وأخرى في احضان النفوذ البريطاني (عباس محمد كاظم - ثورة الخامس عشر من شعبان ص 14).ضعف الحكام:ففي ظل حكم الدولتين العثمانية والايرانية، كانت الشعوب الاسلامية تعاني الفقر والفاقة‎ والاستبداد والظلم‎، بينما كان الحكام‎، لاسيما في اواخر عهدي تلكما الدولتين منغمسين في اللهو واللعب‎، بعيدين كل البعد عن مشاعر الشعب واحتياجاته الاساسية في الحياة‎.وعندما شعر الاستعمار بقوته وسطوته‎، وبضعف وخور حكام الدول الاسلامية‎، انطلقت‎ جحافله في مطلع القرن التاسع عشر تجوب البلاد الاسلامية طولاً وعرضاً، متخذة اياها دولاً وشعوبها خولاً.بريطانيا، فرنسا، ايطاليا، ألمانيا النازية‎، واسبانيا، اسماء الدول الاوروبية الاكثر تألقاً في سماء النفوذ الدولي آنذاك، تلك الدول وغيرها كانت تتبارى في حلبة الدول الضعيفة لاقتسام الغنيمة، وبطبيعة الحال‎، فإن الاقوى تكون له حصة الأسد من الغنائم‎، وهكذا كانت بريطانيا العظمى هي السبَّاقة في بسط نفوذها على أكبر قدر ممكن من الدول والممالك الاسلامية‎.بدأت بريطانيا في السادس من تشرين الثاني عام 1914م باحتلال العراق ومن قبل احتلت الهند عام 1818م‎، وهو العمق الاستراتيجي لإيران‎، وحكمتها حكماً مباشراً بعد أن كانت قد بسطت‎ نفوذها عليها فترة غير قصيرة (عباس محمد كاظم - ثورة الخامس عشر من شعبان / ص 13).وانطلقت بعد ذلك لاحتلال جميع الطرق الاستراتيجية التي تؤدي الى الهند والشرق‎ الأقصى‎، فقامت باحتلال الدول المطلة على البحر الاحمر ليتسنّى لها احتلال مصر، وبعد أن‎ حققت مآربها من ذلك اتجهت صوب البحر الاحمر، فاستولت على معظم دول الخليج وجزرها ذات الموقع الاستراتيجي من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية‎، تمهيداً لاحتلال ايران من‎ الجنوب‎، حيث كان الشمال مسيلاً للعاب روسيا، والتي بالفعل تقدمت واحتلت أجزاء واسعة‎ منه‎، وهي بلاد القفقاز وبادكوبة وبخارى وسمرقند في عهد فتح علي شاه ومازالت تلك المدن‎ واقعة تحت سيطرة دول آسيا الوسطى في وقتنا الحاضر.وفي عام 1881م احتلت بريطانيا مصر، واعقبها احتلال السودان في عام 1884م‎، وبذلك تسدّت القوات البريطانية جميع الطرق المؤدية الى الهند بوجه المستعمرين الآخرين‎.أما فرنسا فإنها احتلت الجزائر في العشرينات من القرن التاسع عشر ثم قامت باحتلال‎ تونس عام 1881م‎، وفي عام 1911م احتلت مراكش‎.كما أن ليبيا وبعض اجزاء المغرب كانتا من نصيب القوات الايطالية والاسبانية على التوالي.المقاومة العنيدة: وفي ظل هذه الظروف العصيبة التي مرت بها الدول الاسلامية وغيرها من الدول التي وقعت‎ فريسة الاحتلال الغربي، انطلقت طلائع المقاومة من رحم الشعوب المضطهدة‎، لطرد العدو الغازي من التراب الوطني الاسلامي.عندما بدأت البوادر الاستعمارية البريطانية تظهر للعيان باحتلال العراق تبعا لتنوع المصالح السياسية والاقتصادية والإستراتيجية في العراق وتنفيذاً لهذا المخطط عملت بريطانيا على تسيير حملة عسكرية من البحرين نزلت في الفاو يوم ( 1ت 2 / 1914) فما كان للسلطات العثمانية إلا العمل لتعبئة الجهود لمقاومة الغزو البريطاني، اذ اصدر شيخ الإسلام (خيري افندي) فتوى الجهاد ضد الغزاة في يوم (7 ت 2 /1914) وكررها في (11ت2) ونشرت في بيان مؤشر من ثلاثين عالم في (23 ت2) إلى أن هذه الفتوى لم تلق تجاوباً من المسلمين وكان أثرها ضعيفاً إلى حد كبير.(احمد باقر علوان الشريفي، كربلاء بين الحربين العالميتين (1918 - 1939)، ص 33). انطلقت حركة الجهاد في التاسع من تشرين الثاني أي بعد أيام من احتلال‎ الفاو من قبل القوات البريطانية وشارك في هذه الحركة علماء الدين المخلصين‎، ورؤساء العشائر الغياري‎، وبعض الوطنيين الاحرار، المهم أن الثورات الموضعية بقيادة علماء الدين المجاهدين قد قاومت الاحتلال الاجنبي مقاومة شديدة‎، ولم تفترش الارض رياحيناً للعدو أياً كانت الاسباب‎.في هذا الوقت قام كبار علماء المسلمين الشيعة بمبادرة منهم باصدار فتاوى تدعو إلى الجهاد ومقاومة الاحتلال الانكليزي وتأييد العثمانيين في الحرب على الرغم من أنهم كانوا على يقين بان العثمانيين لا يمثلون الوجه الإسلامي الصحيح إلا إن شرهم أهون عليهم من خطر الانكليز الكفار (عبد الحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 - 1924)، ص 163 )، حيث قاموا بتعبئة سكان المدن والعشائر وحثهم على الجهاد وتنظيم تطوع المجاهدين وقيادتهم إلى جبهة الحرب(المصدر نفسه، ص 164 ).وكانت هذه أولى المواجهات المسلحة التي قادها واشترك فيها رجال الدين والعلماء الشيعة ضد الاحتلال والتي شكلت تجربة مهمة ومقدمة لمواجهتين مسلحتين هما ثورة النجف عام 1918 وثورة العشرين عام 1920 غير إنها تميزت عنهما في كونها نمت في إطار حركة الجهاد العام الذي أعلنته الدولة العثمانية وما حملته بسبب ذلك من دلالات فكرية وسياسية (المصدر نفسه، ص 164). إن هذه المواقف للمؤسسة الدينية وخاصةً المواقف السياسية لم تأت من فراغ بل كانت بداياتها متمثلة بنمو الحركة الإسلامية في المدن الشيعية المقدسة وكيف إن هذه المدن شكلت الاتجاه الفكري السياسي والرئيس في تلك المدن خلال المدة الممتدة بين أوائل القرن العشرين وحتى الاحتلال الانكليزي للعراق عام 1914 حيث تمثل ذلك النمو بعدد من المظاهر السياسية والفكرية للتيارات التي تولدت عنها وكانت النجف وكربلاء والكاظمية وعلى الرغم من أهمية المدن الشيعية الأخرى قد شكلتا المركز القيادي الأساسي للحركة الإسلامية ومظاهرها الجهادية والفكرية وتياراتها، حيث أضحت تلك المدن مراكز أساسية لتجمع وانطلاق المجاهدين منها إلى جبهة الحرب في البصرة (عبد الحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 - 1924)، ص 34).ففي مدينة النجف قام عدد كبير من علماء الدين بادوار مهمة في حركة الجهاد وكان أبرزهم المجتهد محمد سعيد الحبوبي الذي قام بدور رئيس فيها حيث كان أول من بادر إلى قيادة مجموعات من المجاهدين والتوجه بهم إلى البصرة وقد التف حوله العديد من العلماء الذين عملوا على تعبئة عشائر الفرات الأوسط وحثها على الجهاد(عبد الله النفيسي، دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث، ص 86).أما المرجع الأعلى السيد كاظم اليزدي الذي أفتى بدوره في الجهاد وبعد اجتماعه مع مبعوثي الحكومة العثمانية المتمثلين بـ(محمد فاضل الداغستاني وشوكت باشا وحميد الكلدار) الذين قدموا إليه من بغداد، بعدها أرسل نجله السيد محمد لينوب عنه في استنهاض العشائر للجهاد من خلال ترأسه وفد من العلماء وطلبة العلوم الدينية وتوجه إلى بغداد لمرافقته المتطوعين الذاهبين إلى الجبهة كما وجدد السيد اليزدي دعوته للجهاد في خطبة ألقاها في صحن الإمام علي (عليه السلام) حرض فيها الناس على الدفاع عن البلاد الإسلامية وأكد وجوب ذلك حتى على الفتى العاجز بدناً (علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج 4، ص 128 - 131 ).لقد كانت مدينة كربلاء في مقدمة المدن العراقية التي استجابت لحركة الجهاد التي قادها العلماء الأعلام حيث إن اجتماعا كبيرا عقد في المدينة حضره كبار رجال الدين كان في مقدمتهم السيد إسماعيل الصدر الذي سار بالحاضرين إلى صحن الإمام الحسين (عليه السلام) وهناك ألقى احد الشعراء الكربلائيين هو محمد حسن أبو المحاسن قصيدة حماسية ألهبت الشعور الوطني للحاضرين وعمقت الترابط الوثيق بين أبناء العراق(احمد باقر علوان الشريفي، كربلاء بين الحربين العالميتين (1918 - 1939)، ص 36).قوموا بواجب دينــكم إن القيام لكم قد وجـب إن تنصروا دين الهـدى فالنصر فيكـم والغـلب إنــي نذير الانكليــز فيومهـم مـنا اقـترب أما في مدينة الكاظمية فقد كان لها الموقف المشرف بالوقفة الأصلية في الدفاع عن بيضة الإسلام والمسلمين، إذ برز فيها مجتهدان كبيران هما السيد مهدي الحيدري والشيخ مهدي ألخالصي قادا الدعوة للجهاد واشرفا على تطوع المجاهدين حيث بادر الأول بعد احتلال الفاو إلى إرسال برقيات إلى النجف وكربلاء وسامراء عبر فيها عن رغبته في الاجتماع بمراجع الدين لبحث أمر الاحتلال فضلاً عن مساهمته الفعالة في حث الناس على الجهاد من خلال المنبر في الصحن الكاظمي الشريف (عبد الرزاق عبد الدراجي، جعفر ابو التمن ودوره في الحركة الوطنية في العراق، ص40-42).أما الشيخ مهدي الخالصي فقد اصدر حكما شرعيا اوجب فيه على المسلمين (صرف جميع أموالهم في الجهاد، حتى تزول غائلة الكفر، ومن امتنع عن بذله وجب أخذه كرها(المصدر نفسه، ص 41)، هذا فضلاً عن انه اصدر رسالة عنونها (السيف البتار في جهاد الكفار) تعرض فيها إلى مسألة الجهاد في الإسلام وما يترتب على الأمة الإسلامية للقيام بشروطه وقواعده وأركانه (عبد الحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 - 1924)، ص 167) .وقد لاقت فتاوى العلماء بكل العراق استجابة واضحة وكبيرة من قبل عامة الناس حيث انظم العديد من الأهالي إلى صفوف المجاهدين، وهذا الأمر يدلل على عمق الترابط بين الناس ومقلديهم داخل المؤسسة الدينية التي اعتبرت الموجه الأول للأحداث والقائد الأوحد للعمليات الجهادية .الإمام الشيرازي يتصدى:وعلى إثر المواجهة بين قوات الإحتلال البريطاني وشرائح الجماهير المختلفة بقيادة مراجع الدين، أنشأت في النجف العديد من الندوات التي كانت تناقش القضايا السياسية وتدار هذه الندوات من قبل رجال دين بارزين والعديد من المثقفين أمثال جواد الجزائري وعبد الكريم الجزائري، وندوة آل شهيب التي يديرها محمد رضا ومحمد باقر الشبيبي وغيرهما، وكان لهذه الندوات الأثر البالغ في تأسيس جمعية إسلامية سرية هي( جمعية النهضة الإسلامية) في (ت2 1917) من جهة (عبد الحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 - 1924)، ص 191)، ومن جهة أخرى ساهمت هذه الندوات إلى حد كبير في قدوم الشيخ محمد تقي الشيرازي من سامراء إلى النجف ومن ثم إلى كربلاء حيث استقر فيها، وقد تم ذلك بناء على مشاورات ومناشدات أعضاء المجالس (الندوات) المذكورة بهدف حصر الزعامة الجهادية بالإمام محمد تقي الشيرازي بعد أن تبين لهم انسحاب السيد كاظم اليزدي من المواجهة.لقد أتخذ من مقتل الحاكم السياسي الانكليزي في النجف يوم 19 آذار 1918 البداية في الصدام بين الأهالي في النجف وقوات الاحتلال التي ردت بأوامر من الجنرال مارشال قائد القوات البريطانية بحصار المدينة وعدم فك الحصار إلا بعد تنفيذ الشروط القاسية التي تتمثل بتسليم بعض الأشخاص الذين يتزعمون الثورة وتسليم الأسلحة ودفع غرامة مالية قدرها 150 ألف ليرة ونفي ألف رجل كأسرى إلى الهند، وفعلاً تم إعدام الكثير من رجالات الثورة (فاروق صالح العمر، الأحزاب السياسية في العراق (1921 - 1932)، بغداد 1978، ص 37).ان ما يمكن استنتاجه مما سبق ينحصر في إن المضمون الإسلامي الذي حملته الثورة لم يتمثل بالدور القيادي البارز لرجال الدين في المؤسسة الدينية وجمعية النهضة الإسلامية، إنما في الأفكار والأهداف السياسية التي انطلقت على أساس مقاومة الانكليز، إذ كان هناك ترابط واضح بين المقاومة من اجل التحرير والاستقلال .. وبين الدفاع عن المسلمين والإسلام .وهكذا فقد بقي الدور القيادي والريادي للمؤسسة الدينية بكافة رموزها وضاءً ووهاجاً بكل خطوة سياسية يخطيها تاريخ العراق الحديث والمعاصر إلى يومنا هذا ويبرز ذلك بوضوح أمام حدث آخر مر به العراق ألا وهو(الاستفتاء) في(30 ت2 1918) والذي تضمن الإجابة على ثلاث أسئلة وجهت إلى أبناء العراق :هل ترغبون بحكومة عربية مستقلة تحت الوصاية الانكليزية ؟هل ترغبون في أن يترأس هذه الحكومة أمير عربي؟ من يكون الأمير الذي تختارونه ؟جاءت خطوة الاستفتاء هذه بعد أن أكملت القوات البريطانية احتلال العراق وتوقف الحرب العالمية الأولى، الهدف منه تحديد مصير الولايات العربية المنسلخة من جسم الدولة العثمانية (عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى، (بيروت، 1978) ، ص 84).وعلى الرغم من إن الاستفتاء قد شابه الكثير من عدم الموضوعية إلا إن تمريره في كربلاء والنجف والكاظمية لم يكن بالأمر الهين لهذا فإن نتائجه لم تكن تحقق رضا وطموح الانكليز(عبد الله النفيسي، دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث، ترجمة دار النهار، ص 57).ففي مدينة كربلاء لم يجر الاستفتاء على خير ما يرام وعد نكسة شديدة واجهت الإدارة البريطانية، والسبب إن الحركة الإسلامية في كربلاء كانت قوية في المدة التي سبقت الاستفتاء، فضلاً عن ظهور بعض الجمعيات السرية مثل (الجمعية الإسلامية) التي ترأسها الشيخ محمد رضا نجل الإمام محمد تقي الشيرازي حيث ضمت في عضويتها العديد من الوطنيين ورجال الدين أمثال السيد هبة الدين الشهرستاني والسيد حسين القزويني وعبد الوهاب الوهاب وعبد الكريم العواد وعمر العلوان وعثمان العلوان وطليفح الحسون وعبد المهدي القمبر ومحمد أبو الحب.فضلاً عن تأسيس جمعية أخرى عرفت باسم (الجمعية الوطنية الإسلامية) ضمت عبد الحسين المندلاوي ومهدي المونوي ويحيى الزرندي وقد اتخذت هاتان الجمعيتان من المناسبات الدينية فرصة لتوعية وتعريف الناس بما يحاك ضدهم(احمد باقر علوان الشريفي، كربلاء بين الحربين العالميتين (1918 - 1939) ، ص 45). وبإلحاح من الحاكم السياسي (الميجر تايلر) الذي وجه دعوة إلى جميع الزعامات السياسية والدينية في المدينة لإبداء رأيهم بالاستفتاء ونتائجه إلا إن الحاضرين وعلى لسان عبد الوهاب طلبوا منه مدة ثلاثة أيام لأنهم لا يمثلون عامة الناس، بعدها عقدوا اجتماع في منزل الشيخ محمد تقي الشيرازي تداولوا فيه الأمور السياسية التي تمخضت عن الاستفتاء، فما كان رد الشيخ الشيرازي إلا أن اصدر فتواه الشهيرة التي نصت على انه (ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب أو يختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين) (عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى، ص 48).زعامة واحدة وموقف بطولي:الظاهر من الفتوى التي أصدرها الشيخ محمد تقي الشيرازي في 23/1/1919 لها الأثر العميق في نفوس الأوساط الشيعية وأوساط المعارضين للاحتلال الأجنبي وقد تطابقت مع عدد من الآيات القرآنية التي نصت على أن يطيع المسلمون أولي الأمر منهم، وتعد هذه الفتوى هي الأولى خلال السيطرة البريطانية الفعلية على العراق حين أعطى فيها الشيخ الشيرازي رأياً علنياً ضد البريطانيين الأمر الذي أضفى على الحكم الوطني مباركة دينية، وكان لهذه الفتوى انعكاساً ايجابياً كبيراً في نفوس الناس، وبذلك توازن موقف العلامة الشيرازي في كربلاء مع مواقف رجال الدين في النجف ( احمد باقر علوان الشريفي، كربلاء بين الحربين العالميتين (1918 - 1939)، ص48 ) .تمتعت الجمعية الإسلامية في كربلاء بوزن جماهيري كبير خاصةً في الفرات الأوسط، الأمر الذي جعل بريطانيا تدرك إن الاتجاه الذي يعاكسها يسير بشكل منظم وله تأثيره المباشر على وجودها، فلابد لها من أن تتخذ موقفاً من الشخصيات الهامة والنشطة على الساحة العراقية(المصدر نفسه، ص 48). والعمل على اعتقال الشخصيات النشطة على الساحة الكربلائية أمثال عمر العلوان وعبد الكريم العواد ومحمد مهدي المولوي ومحمد علي الطباطبائي ومحمد على أبو الحب وطليفح الحسون (غسان العطية، العراق نشاة الدولة ( 1908 - 1921)، ترجمة عطا عبد الوهاب، ص 235).إن هذا الموقف أثار حفيظة الشيخ الشيرازي الذي كتب كتاباً مستعجلاً إلى ارنولد ولسون وبعد يوم من اعتقال رجال الحركة الوطنية واصفاً فيه إن المعتقلين لم يرتكبوا ذنباً يوجب عليهم الاعتقال، ويمكن أن يكون الهدف من اعتقال هؤلاء الساسة هو ضرب التحرك الوطني الذي كانت تقوم به الجمعية الأمر الذي أدى إلى تصعيد الموقف باعتقال الانكليز رئيس الجمعية الشيخ محمد رضا الشيرازي وبعض أصحابه الأمر الذي دفع الشيخ الشيرازي بتوجيه التهديد إلى الانكليز مفاده انه يستوجبه هذا الأمر الهجرة إلى إيران وإعلان الجهاد ضدهم من هناك، وعندها شعر الانكليز بخطورة الموقف وقرروا إطلاق سراح المعتقلين كما وقامت بسحب الميجر (بوفل) الذي كان يشغل منصب الحاكم السياسي في كربلاء واستبداله بالميرزا محمد خان ذو الأصل الإيراني ومتجنس بالجنسية العراقية وفك الارتباط الإداري لكربلاء بلواء الحلة وإلحاقها بالهندية إداريا (احمد باقر علوان الشريفي، المصدر السابق، ص50 ) .وبقدر تعلق الأمر بالعلاقة الصميمة بين المؤسسة الدينية والأحداث السياسية التي مرت على العراق من جهة والدور القيادي لزعامات المؤسسة الدينية خلال حقبها المختلفة نجد إن المدة التي أعقبت وفاة المرجع الأعلى السيد كاظم اليزدي في 30 نيسان 1919 وتولي الشيخ محمد تقي الشيرازي زعامة المؤسسة الدينية التي انتقلت من النجف إلى كربلاء سارا جنباً إلى جنب باتجاه توثيق العلاقة ما بين الزعامة السياسية والزعامة الدينية التي تقود الشعب واعتبر الموقف الذي خرج به الشيخ الشيرازي تجاه الاستفتاء البذرة الأولى التي وجهت الأنظار نحو المقاومة الجدية والشرسة ضد الاستعمار، ولهذا فان الدور القيادي للإمام الشيرازي تميز بمدتين الأولى بدأت منذ توليه المرجعية في أيار 1919 واستمرت حتى آذار 1920 حين بدأت الفترة الثانية والتي استمرت بالمواقف المشرفة حتى وفاته في 30 ذي الحجة 1338 هـ (17 آب 1920) .تميزت المدة الأولى بان الشيخ الشيرازي قام بتعزيز القيادة الدينية في معارضة المشاريع الانكليزية ومقاومة الاحتلال وحل بعض المشاكل التي تواجهها حركة المقاومة الإسلامية وذلك قبل أن يتخذ موقف حازم وحاسم للبدء بمواجهة شاملة ومسلحة ضد الاحتلال حتى يتمكن من تحقيق وإنجاح جميع السبل القادرة على تحقيق النجاح في الحالة الثورية كما جعل وبشكل اكبر من المؤسسة الدينية عامل جذب لجميع أنظار أبناء الشعب وتمكن من حل المسألة المهمة الخاصة بالتناحر والصراع بين العشائر عن طريق خلق التآلف والتقارب في الوجهات المختلفة بالشكل الذي يمكن من خلال ذلك الاستفادة منهم في مقاومة المحتل، كون إن الثقل الذي تتمتع به هذه العشائر في كل موقف سياسي لا يستهان به إن كل هذه الأمور كانت بمثابة التهيئة الكاملة لما ينتظره العراقيون من استقلال ... الأدب الثوري:وغير ما ذكر، فإن ثمة روافد فكرية أخرى ساعدت على خلق جو ثوري ضد الاحتلال‎ البريطاني للعراق‎، منها: الشعر بشقيه القريض والعامي، ولكن الشعر العامي والهوسات كان أثرها‎ أعظم في النفوس لاسيما في أوساط العشائر في الفرات الاوسط والجنوبي، وكذلك كان للادب‎ والنثر، الذي كان يُلقى في المهرجانات والاحتفالات‎، أو ينشر في المجلات والجرائد أثره‎ الفعال في تجنيد الطاقات وشحذ الهمم لمواجهة الغزو العسكري والثقافي القادم من الغرب‎ الكافر.هذه المواجهة التي اطلق شرارتها الاولى علماء الدين الشيعة من خلال قيادتهم لطلائع‎ المجاهدين‎، وكذلك قصائدهم ومواعظهم التي الهبت النفوس حقداً وغيظاً على الغزاة الطامعين‎.ولا يخفى ان المضمون الاسلامي الذي حملته الثورة لم يتمثل فقط في الدور القيادي البارز للعلماء فحسب‎، وانما في الاهداف والافكار السياسية التي انطلقت على أساسها مقاومة‎ الانجليز، حيث ارتبطت المقاومة من أجل التحرر والاستقلال‎، بالدفاع عن الاسلام والمسلمين‎ ضد احدى الدول الاوروبية المعادية‎، ولعل مضمون القصيدة التي نضمها الشيخ جواد الجواهري في سجن بغداد، بعد ان حكم عليه بالاعدام‎، هي احدى التعبيرات عن ذلك (مجلة العرفان - العدد السابع - دور الحركة الاسلامية في مقاومة الاحتلال والمشاريع الانجليزية للسيطرة على العراق‎ (1918 - 1920) ص 62). والذي يقول في بعض أبياتها:مــددنا بصــائرنــــــا لا العيونا وفـــــــزنا غداة عشقنا المنونارعينا بهــا سنــــة الهاشمـــي نبي الهــدى والكتـــاب المبيناوصنّــا كرامة شعــب العراق وكنــا لعلياه حصنا مصوناوخضنا المعامع وهي الحمـــام نــدافع عن حوزة المسلمينـاوجحفــل اعدائنــا الانجليــــز يملأ سهـــــــل الفلا والحزوناومــا ضامناً الاسر في موقـف اطعنــا عليــه الرسول الامينا

وهكذا نجد نفس المفاهيم التي جسدها الادباء والعلماء في الشعر القريض‎، هي ذاتها موجودة في الاهازيج التي كانت تتفجر من حناجر عشائر الفرات الاوسط والجنوبي، تلك المفاهيم الدينية التي رسمت الخطوط العامة للثورة، وألهبت النفوس وأججتها في المطالبة بالحق المغصوب‎، والتراب المضيّع‎، والقيم المهددة‎.فكان للشعر الشعبي الهادف‎، أثره الفعّال في محاربة الغزاة‎، وتعكير صفو احلامهم الوهمية‎ في السيطرة والاحتلال‎.فقد عكس هذا الشعر ولاسيما الاهازيج والهوسات المفهوم الشعبي والاسلاميللثورة‎، الذي شكل الدافع الاساسي لانخراط العشائر فيها، واستجابتهم لفتاوى العلماء وأوامرهم‎، فالقصائد والهوسات التي نظّمت أبان الثورة وبعدها كانت تعبر عن مدى التأثير القوي لهذا العامل ودوره في الثورة‎ (عبد الحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 - 1924)، ص 232 (. فعلى سبيل المثال تعكس الاهزوجة التي رددتها احدى النساء أمام افراد عشيرتها الظوالم مع بدء معركة الرميثة‎، عن مدى التزام عشائر العراق بالواجبات‎ الدينية في محاربة الكافرين، فقالت: وهي تستحثهم على القتال‎: ها..ها.. حل فرض الخامس‎ گوموله، أي ان الجهاد وهو الفرض الخامس من فروع الدين يستصرخكم‎، فلبُّوا نداءه‎ وجاهدوا الغزاة الكافرين الطامعين بأرض المقدسات في العراق‎.ولم يكن الشعر الشعبي والقريض وحده في ميدان المواجهة للتحريض والتأليب ضد الواقع‎ الفاسد، الذي كان يكتنف العراق في ظل الاحتلال‎، بل كانت الجمعيات والاحزاب والتنظيمات‎ الشعبية بقيادة علماء الدين المجاهدين تلعب دوراً بارزاً في هذا الميدان، لقد شهدت حركة المعارضة الاسلامية‎، ارهاصاتها الاولى مع بداية الخطر الذي داهم الدول الإسلامية، وكان لعلماء الدين قصب السبق في الجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام وقيادة المجاميع في ميادين الجهاد، وكذلك الاستمرار في تحصين الأمة من الإنحراف والزيغ والهوى عندما تجتاحها رياح الثقافات التخديرية الفاسدة سواء تلك التي تصدر من المحتل الكافر المتهتك أو الحاكم الظالم المستبد.

يبقى الإسلام رائدا...كما هو معروف ان القوات الاجنبية الغازية قد واجهت في مناطق نفوذها ثورات متعددة المشارب والافكار، وأنها وفي نهاية المطاف تجرعت كأس الهزيمة في معظم تلك المناطق في العالم‎، وإن طال البقاء في بعضها، وكلما كانت المقاومة اشد وأقسى، كلما كان بقاء الاستعمار أقل وخسارتة أكثر.وبطبيعة الحال أن الثورات هي تعبير صادق عن ارادة الجماهير في الحرية والانعتاق‎، وان‎ لكل ثورة روافد فكرية ترتضع منها، ليقوى بها عودها، وتتصلب بها ارادتها ومقاومتها.والذي يقلّب صفحات التاريخ‎، يجدها مشرقة، وكلمات من نور تتوهج منها آيات الكفاح‎ المسلح‎، والانتفاضة الرافضة لكل ألوان الظلم والقهر والاستبداد، أياً كان مصدره، وأنّى كانت‎ قوته‎.التيارات الفكرية للثورة: وأن أهم الروافد الفكرية التي غذّت الثورة التحررية للشعوب الاسلامية آنذاك اربعة‎:1- التيار الاسلامي الثوري.2- التيار الاسلامي المهادن‎.3- التيار الوطني القومي.4- التيار العثماني المتخلف‎.

ان هذه التيارات‎ المتباينة في أفكارها ومناهجها ومشاربها، قد شاركت بشكل أو بآخر في تعبئة الجماهير ضد الهجمة الاستعمارية الشرسة على البلاد الاسلامية - العربية.وكل واحد من هذه التيارات كان يستقطب فئة اجتماعية معينة‎، وتقف وراءه قوى سياسية‎ معينة، وكل واحد منها كان يتحرك في اطار الدائرة الشعبية الخاضعة له‎.وأن الفكر الاسلامي لما يحمله من نتاج فكري غزير وخصب‎، كان رواجه الشعبي أوسع من‎ غيره من الافكار الوضعية‎، ولهذا فإن روافد الفكر والثقافة الاسلامية هي التي أججت روح‎ الثورة والمقاومة لدى كثير من الدول العربية - الاسلامية‎، بالاضافة الى التأثير الملحوظ الذي خلفه الفكر القومي في هذا المجال‎.فلو أخذنا تجربة الثورة الشعبية في العراق ضد الاستعمار البريطاني عام 1920م نلاحظ‎ وجود فرق شاسع بين التأثير الاسلامي الثوري والتأثير القومي في أوساط الجماهير العراقية‎.فبينما كانت النوادى والمقاهي منتجع رواد الفكر القومي، كان المسجد والحسينية مراكز مهمة لبث الفكر الاسلامي الثوري.كان الفكر القومي متأثراً فعلاً بالافكار الاوروبية التي طُرحت بعد الثورة الصناعية الفرنسية، كالعلمنة والتفسير المادي للحياة‎، في حين ان الفكر الاسلامي كان منشغلاً في نقد الحضارة المادية الاوروبية من جهة‎، ومقارعة الغزاة الطامعين بالبلاد الاسلامية من جهة أخرى‎.رواد الفكر القومي كانوا يتلقون مساعداتهم المادية والمعنوية من الخارج غالباً، بينما كانت‎ الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة هي المعين الذي لا ينضب لرفد الحركة الاسلامية في العراق‎.العلاقة التي تربط بين قادة الفكر القومي وقاعدته الشعبية - قائمة اصلاً على المادة‎ والمصالح المشتركة‎، بينما العلاقة القائمة بين الجماهير المسلمة والقيادة الاسلامية كانت‎ ولا تزال مبنية على أساس التقوى والايمان والعمل الصالح‎.وما الاستجابة الواسعة التي أبدتها العشائر لدعوات الجهاد التي انطلقت من حناجر علماء الدين الشيعة من على منبر المساجد والحسينيات إلا دليل صارخ على الدور الفعال للعامل‎ الديني في مواجهة المحتل من جهة‎، ودور العلماء وقدرتهم في استنهاض الهمم لمقاومة‎ الاحتلال البريطاني ومن ثم الانتداب‎، من أجل المطالبة بالاستقلال التام من جهة ثانية.الخاتمة:والخلاصة إن طلائع الصحوة الإسلامية في مطلع القرن العشرين قد هبت ضد الإحتلال الغربي للبلدان الإسلامية، ففي العراق‎ انطلقت حركة الجهاد في التاسع من تشرين الثاني أي بعد ثلاثة أيام من احتلال‎ الفاو من قبل القوات البريطانية وشارك في هذه الحركة علماء الدين المخلصين‎، ورؤساء العشائر الغياري‎، وبعض الوطنيين الاحرار.أمّا الهند فقد استطاع الزعيم الوطني غاندي بمؤازرة شعبة طرد الاستعمار البريطاني بعد أن‎ بقى جاثماً على صدرها عقوداً طويلة من الزمن‎.وهكذا توالت الثورات والانتفاضات الشعبية ضد الغزاة الطامعين‎، فقد شهدت مصر أنتفاضة‎ عارمة قادها علماء الازهر في وجه غزوة نابليون ثم في وجه الاستعمار البريطاني، وتكللت‎ في ثورة عرابي الكبرى بعد عام واحد من الاجتياح البريطانى لمصر.اما السودان فإنه شهد بشكل خاص الدعوة المهدية التي أعلنت الجهاد ضد النفوذ الاجنبي، وحققت انتصارات ساحقة ضد القوات البريطانية، وطبّقت الاسلام في عهد محمد أحمد المهدي عام 1885م‎، ولم تهزم الثورة في السودان إلا في عام 1898م من خلال القوات‎ البريطانية التي تمكنت بعد محاولات كثيرة من السيطرة عليها (منير شفيق - الفكر الاسلامي المعاصر والتحديات ص 10).وكذلك واجهت فرنسا وايطاليا واسبانيا حركات تحررية عنيفة قادها الامير عبد القادر الجزائري عام 1830م في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، ومحمد بن علي السنوسي عام‎ 1842م وعمر المختار عام 1911م في ليبيا ضد الاستعمار الايطالي، وعبد الكريم الخطابي عام 1914م في المغرب ضد الاستعمار الاسباني والفرنسي.واستطاعت هذه الثورات ان تحرر مناطق واسعة‎، وتقيم فيها حكماً اسلامياً لفترات‎ متفاوتة‎، ولم يُصف‎ّ أمرها إلا بالقوة المسلحة الخارجية (نفس المصدر السابق / ص 11).المهم أن الثورات الموضعية بقيادة علماء الدين المجاهدين قد قاومت الاحتلال الاجنبي مقاومة شديدة‎، ولم تفترش الارض رياحيناً للعدو أياً كانت الاسباب‎.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك