دراسات

إشكاليات المستقبل بين تنامي السلطة وغياب فلسفة الدولة دراسة بنيوية في فلسفة الدولة العراقية

7197 14:35:00 2009-06-09

بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي

مقدمة فيما سبق من المفاهيم:

بحثت في دراسات سابقة قضية التباين بين مفهومي السلطة والدولة، وكيف ان مفهوم السلطة لايعني بالضرورة تطابقه مع صناعة الدولة، ففي الاعم الاغلب تمتلك الجماعات البشرية أدواة تشكيل السلطة، لاعتبارات القوة العسكرية، الانقلابات، التحالفات مع قوى خارجية، ولكنها بالتأكيد تفتقر إلى إلى مقومات وعناصر تكوين الدولة، فالدولة لا تحددها مفاهيم الارض، الجماعات البشرية والحاكم أو (القيادة)، الدولة تحتاج إلى أن تمتلك مشروعا حضاريا يحدد مسيرتها في الحياة، ويكون قادرا على التطور والبناء الداخلي كما يكون قادرا على التفاعل المستمر مع كل المعطيات السلبية والايجابية، فمشروع الدولة هو مشروع يمتلك فلسفته الخاصة ورؤياه الآنية والمستقبلية، ويلقي نظرة موضوعية على الماضي دون أن يستغرق في فكرة الماضوية كمرجعية تاريخية له.

من المؤسف اننا لانجد تصورا لفلسفة الدولة في الدستور العراقي الحالي، كما لم تكن هناك فلسفة للدولة في الدستور المؤقت في عصر صدام، فالقيادات السياسية تمكنت من تشكيل سلطة للحكم في غياب معايير الدولة وبالتالي لم تتمكن من تقديم مشروع حضاري يتناسق والتاريخ الحضاري للعراق، كما أن الناتج المحلي اعتمد بشكل شبه كلي (97%) على صادرات العراق من النفط تاركا كل الخامات الاولية التي تمثلها أرض وادي الرافدين مهملة، وهذا بدوره أدى إلى ركود اقتصادي كبير وتوقف حركة الانماء، بل وتراجعها إلى مستويات متدنية، وهذا بالطبع يعكس تدني بقية الاتجاهات التي تتفاعل بشكل مباشر مع حياة الانسان اليومية، ابتداء من مناهج التعليم الاولي وحتى الجامعي، وايضا في القطاعات الصحية، الزراعية والصناعية، مما يمكن اعتباره جريمة في ايقاف النهج الحضاري وخاصة إذا إعتبرنا العراق من أكر البلدان القادرة على تقديم مواد أولية، وخامات طبيعية نتيجة للتكوين الجيولوجي لأرض العراق، هذا غير توفر العنصر البشري الذي هو أساس البناء الحضاري لكل الحضارات الارضية.

غياب الفلسفة:

تتشكل فلسفة الدولة عند مفهوم (العقد الاجتماعي)، فاعلاقة بين الفرد كأحد عناصر المجتمع وبين الدولة يجب ان تكون واضحة، ومحددة عند كتابة الدستور ليصبح الدستور بالتالي المرجع القانوني لتفسير سلوك الافراد سواء كانوا رجال سلطة او من بقية طبقات المجتمع الانساني، وبالتالي لايمكن للسلطة أن تصبح فوق المجتمع، ولكنها تفسر كجماعة تنفذ الشرعية القانونية بين الافراد، وفي حال فشل السلطة في القيام بدورها تحل ويتأتى لانتخابات عامة تفرز من خلالها صناديق الاقتراع منظومة سلطة جديدة.

غير ان الاشكالية التي يعاني منها رجال السلطة في العراق والمجتمع العراقي المعاصر هو في غياب فلسفة تحدد فكر الدولة واتجاهاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية على السواء، ففي الوقت الذي كنا نرغب فيه ان يتحول العراق من الاتجاهات الثيوقراطية في عصر صدام الذي اعتبر ان سلطاته إلهية، جردت الدولة من مفاهيمها وحولتها إلى دولة الرجل الواحد كما قال لويس الرابع عشر يوما : (أنا الدولة والدولة أنا).

فالعراق الحالي يعاني من غياب نظرية فكرية ترسم ملامح الدولة، فحتى هذه اللحظة لم يقدم لنا المشرع العراقي تفسيرا للاتجاهات الفكرية للدولة العراقية، كان الدستور قد طرح تعريف العراق بانه (دولة فيدرالية ديمقراطية) لكنه لم يقدم تفسيرا للبناء الفيدرالي والديمقراطي في النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية مما اتاح بظهور فكرة التخلي عن الفيدرالية لصالح الحكم المركزي، وهو أول مراحل نقض الديمقراطية التي صرح بها الدستور، مما يعكس وجود مفهوم مائع للدولة، فقد تم التعامل مع العراق باشكال مختلفة في آن واحد، فعندما يتم الحديث عن العرب المسلمين نجد هناك مفهوم يطرح موقفا طائفيا (سنة وشيعة)، وعندما يتم الحديث عن القومية نجد (الاكراد) وهو يطرحون مشروعا قوميا خاصا بشمال العراق، أما بقية المذاهب الدينية والفكرية، والاقليات القومية فتضيع بين هذا وذاك مما أوجد الكثير من الاشكالات نؤشر منها (الكرد الفيليين، التركمان، الشبك، الصابئة المندائيين، الاثوريين، الكلدان) وغير هم كثير ممن هم جزء من النسيج الاجتماعي العراقي عبر حركة التاريخ.

من هنا فإننا في طروحاتنا في فلسفة التاريخ وفلسفة التشريع وفلسفة النظم نحتاج إلى معرفة نوع الاتجاهات والصياغات التي تتبناها السلطة العراقية الحالية، وما هي المعايير التي تتبناها النظم الدستورية، وهنا تظهر تساؤلات قانونية وتشريعية:أولا:النظام الفيدرالي: هل العراق فيدرالي كما ورد في الدستور؟ فلو كان الجواب نعم! فاحتكاما إلى الدستور يجب ان يتحول العراق إلى مجموعة من الادارات الفيدرالية والتخلص نهائيا من فكرة الحكومة المركزية أو أية تسمية مشابهة تؤدي نفس الغرض في الحكم المركزي كما كان في عصر صدام، أما محاولة السلطة بالتهرب من طروحات الفيدرالية فسيعني محاولة العودة إلى النظام المركزي وهو ما يمثل ارتدادا فكريا في المرحلة المعاصرة.

ثانيا: الدولة والمجتمع: ماهي فلسفة العقد الاجتماعي الذي قود العلاقة بين الافراد والدولة؟ إن مفهوم الفرد والمواطن في الدستور الحالي مفهوم مائع وغير دقيق، ومن هنا حدث صراع بين الانتماء للمواطنة والانتماء للاتجاهات الحزبية والسياسية من جانب، والعرقية من جانب آخر، ولا نغفل الانتماء الديني حيث غالبية ابناء المجتمع العراقي يدينون بالاسلام، والدستور الحالي لاينظم هذه العلاقات بشكل واضح وقاطع لا لبس فيه، ولا يخضع لتفسيرات جانبية.

ثالثا: النظام التعليمي: لم تطرح لنا السلطة الحالية مفهوما واقعيا للنظام التعليمي، فالعراق لم يمتلك فلسفة تعليمية لا سابقا (حيث حاول حزب البعث ايجاد فلسفة تنطلق من تحول الطلاب إلى تابعين للحزب الحاكم) ولا حاليا فالفرد العراقي لايدري أي مدرسة فكرية تتبع، فالمناهج التعليمية تخضع للاتجاهات الدينية من جة والاتجاهات القومية من جهة أخرى، والسبب هو عدم وضوح شكل الدولة وطبيعتها البنيوية، وكنا قد قدمنا ورقة عمل لتطوير المناهج التربوية والتعليمية لوزير التربية (الخزاعي) خلال زيارته الاخيرة للندن ووجدنا اننا نتكلم في واد والسلطة في العراق تتحرك في واد آخر.

رابعا: النظام الاقتصادي: لم يقدم الدستور تفسيرا لمفهوم النظرية الاقتصادية التي يفترض ان تتبعها الدولة، فالعراق خرج من نظام ادعى انه نظام اشتراكي ولكنه تحول إلى التطبيقات الرأسمالية بشكل فاضح خلال الفترة السابقة لسقوط الصنم، والان وبعد كل هذه السنوات لم يقدم لنا منظروا الاقتصاد العراقي الحالي تصورا لأي مدرسة اقتصادية تتبعها الدولة، فالسلطة في العراق لاتتصرف كسلطة رأسمالية، وهي ترفض ان تتبع الاقتصاد الاسلامي، كما انها خارج منظور الاقتصاد الاشتراكي. فاذا قرر اقتصاديو العراق الانظمام للاقتصاد الدولي فما هو النظام الاقتصادي للعراق المعاصر؟

خامسا: النظام الزراعي: عندما كنا اطفالا كان يتم تعريف العراق باعتباره بلدا زراعيا وخاصة أن التعريف التاريخي كان ينحصر في كونه (بلاد الرافدين، أرض الرافدين، بلاد مابين النهرين، أرض الحضارات وارض السواد) وكلها تسميات جائت لتقدم العراق كبلد زراعي من الطراز الاول، أما الان وفي عصر إنهيار النظم الزراعية وإشكاليات مصادر المياه فكيف يمكن تعريف الاقتصاد العراقي؟

سادسا: النظام الصناعي: إذا اعتبرنا العراق بلدا زراعيا فهذا لايعني عدم إمكانية ان يتحول إلى بلد صناعي في ذات الوقت، غير انه في كلتا الحالتين يجب تحديد فلسفة ما لتفسير معنى انه بلد صناعي، أو يقوم على أسس صناعية وزراعية في نفس الوقت، فالمقومات الصناعية في العراق تمكنه من أن يصبح في مقدمة البلدان الصناعية، غي أن الاشكالية تكمن في السياسات السلبية، ففي عصر صدام ونتيجة لدخوله الحرب مع أيران وحاجتة لمساندة دول الخليج فقد منح مساحات كبير من الاراضي لكل من السعودية والكويت (خاصة ما كان يعرف باسم مناطق الحياد)، أضافة إلى مساحات أخرى اعطيت للسعودية والاردن، وكانت الدراسات الجيولوجية قد اشارت إلى وجود كميات هائلة من العناصر الاولية في هذه الاراضي منها (اليورانيوم) وقد ذهب للسعودية، والفوسفات والكبريت والتي منحها للاردن، فقد ضحى صدام بثروات وطنية هائله في سبيل حربه الفاشله، فهل ستتمكن السلطات الحاكمةفي العراق من استرداد هذه الثروات المهدرة؟

الدولة والوطن:

من المؤسف اننا لانرى في الدستور العراقي ولا القوانين التي يفترض ان يشرعها البرلمان تعريفات حقيقية لمفهوم الدولة ولمفهوم الوطن، وقد ذكرنا فيما سبق إشكاليات مفهوم الدولة وحاجتنا إلى فلسفة حقيقية تحدد هذا المفهوم فيما يخص العراق. أما الجانب الاخر وهو مفهوم الوطن، فبالتأكيد لايمكن إعتبار الوطن مجرد تلكالبقعة من الارض التي يولد عليها الانسان أو يعيش فيها أو أن تكونله قبرا فيدفن فيها، فللوطن قيمة أكبر من كل تلك التعريفات التي استهلكتها كتبنا القديمة. فالوطن هوفي الحقيقة كل مكان يوفر للانسان الامان والاستقرار والقدرة على مواصلة الحياة والابداع والتطور، ولو كان الوطن وفقا للتعريف السابق لما كان للهجرات أية قيمة تاريخية أو حضارية، ولا أي معنى إنساني، فقد يعيش الانسان طيلة حياته في الارض التي ولد فيها لكنها لاتشكل له وطنا لانها لم تقدم له معنى قيميا في القدرة على الابداع والتواصل مع مفردات الحياة، وعلى سياسيي العراق أن يحولوا العراق الحالي من أرض للميلاد إلى وطن للاستقرار والتطلع الحضاري وهذا مالم يقل به الدستور المعاصر.

الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.ukرئيس ومؤسس الاتحاد الشيعي العالمي (أتشيع)المملكة المتحدة – لندن8 / حزيران / 2009

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك