دراسات

الاجتماع العراقي والاجتماع الشيعي: من الذي طبع الآخر بطابعه؟/ 2

2539 2022-08-28

د.علي المؤمن ||

 

    نقلتُ في كتابي "صدمة التاريخ" مقولة تاريخية منسوبة إلى "الإسكندر المقدوني"، تحدث بها إلى أستاذه "أرسطوطاليس"، بعد أشهر على احتلاله بابل قبل 2400 عاماً وإسقاطه الدولة البابلية، أي قبل استيطان العرب العراق بحوالي 1000 سنة. في هذه الرسالة يصف  "الإسكندر" أهل العراق ويشكوهم إلى أستاذه بقوله: ((لقد أعياني أهل العراق، ما أجريت عليهم حيلة إلاّ وجدتهم قد سبقوني إلى التخلص منها؛ فلا أستطيع الإيقاع بهم، إلّا أن أقتلهم عن آخرهم)). فأجابه الحكيم "أرسطو": ((لا خير لك من قتلهم. لو أفنيتهم جميعاً؛ فهل تقدر على الهواء الذي غذى طباعهم؟ فإن ماتوا ظهر في موضعهم من يشاكلهم)). وهو يريد القول بأن العراقيين (البابليين والسومريين) شعب حاد الذكاء، كثير النقد والجدل، قليل الطاعة. وهي الطباع الحالية ذاتها، والتي سبق أن تطبّع بها العرب المهاجرون الى العراق قبل 1400 عام. وهنا يعيد "ارسطو" السبب الى البيئة التي تغذي العراقيين، أي الهواء والماء والتراب، وهي عوامل اكتشف تأثيرها علماء الانثروبولوجيا والاجتماع والنفس الاجتماعي بعد مئات السنين من مقاربة "أرسطو".

    ورغم أن العراقيين الأصليين استعربوا بعد الفتح الإسلامي تدريجياً، إلّا أن هذا الاستعراب اقتصر على اللغة والنسب والمعرفة الدينية، ولم يستعربوا نفسياً وسلوكياً، بل لقد حدث العكس؛ إذ أن العرب المستوطنين هم الذين استعرقوا وحملوا طباع العراقيين، وذلك لأن سكان العراق الأصليين من البابليين والسومريين وغيرهم؛ كانوا بالملايين، وتقدرهم بعض المصادر التاريخية بثلاثة ملايين نسمة آنذاك، وهي أعلى نسبة كثافة سكانية في العالم حينها، بينما كان عدد العرب الفاتحين والمستوطنين، لايزيد عن (100) ألف شخص، في أكثر التقادير. وفي النتيجة؛ فإن العرب منحوا العراقيين أنسابهم ولغتهم ودينهم، ومنح العراقيون العربَ طباعهم، وكثيراً من عاداتهم وتقاليدهم.

   بيد أن المؤرخين والرواة العرب وغير العرب في العصرين الأموي والعباسي، تجاهلوا وجود هذه الملايين من البشر من أبناء بلاد الرافدين، بل اختلقوا أوهاماً تتعلق بسكان العراق الأصليين، وأقحموا النبط في التركيبة السكانية العراقية الأصلية، وكان كل تركيزهم في الروايات والأخبار والتأريخ، ينصب حصراً على القبائل العربية النازحة من اليمن والحجاز والجزيرة بعد الفتح، ودورها وفاعلياتها السياسية والعسكرية والاجتماعية، وكأنّ أرض العراق كانت خالية من السكان، وكـأنّ البابليين والسومريين تبخّروا فجأة، ولم تكن لديهم قبائل ولا رموز ولاشخصيات.

   وهذه التجاهل التاريخي لسكان العراق الأصليين هو أكبر جريمة ارتكبها آل أمية ورواتهم ومؤرخيهم بحق العراقيين، والتي ظهرت نتائجها في العصر العباسي، على يد الطبري وابن الاثير وابن خلدون وابن الوردي وغيرهم، وكذا أصحاب الطبقات والتراجم والسير، الذين ترجموا لشخصيات المهاجرين والفاتحين العرب من الجزيرة واليمن حصراً، أو بعض عرب الحيرة وتغلب، ولم يذكروا إطلاقاً أية شخصية عراقية أصلية. فهل يعقل أن لايكون هناك سومري أو بابلي أو أكدي، خلال عصر الفتوحات أو العصرين الأموي والعباسي، قد أصبح قائداً عسكرياً أو سياسياً أو ثائراً أو فقيهاً أو محدثاً أو مؤرخاً؟!، بل حتى اللغات السومرية والبابلية والأكدية تبخّرت فجأة، وهو ما يدل على ما فعلته الفتوحات في العراقيين من اجتثاث لغوي ونسبي وتاريخي.

    وأعتقد أن هذا انعكس على رؤية العراقيين للفاتحين العرب، ولرموزهم السلطوية، ولأساليب تعاملهم، وربما انعكس أيضاً على رؤيتهم لمدرسة آل البيت، وأسباب انحيازهم اليها، لأن موقف مدرسة آل البيت كان متحفظاً تجاه فتوحات الإكراه ومايحدث خلالها من ممارسات، حتى تبيّن للعراقيين بمرور الزمان، ولاسيما خلال خلافة الإمام علي، بأن مدرسة آل البيت هي مدرسة الدفاع عن الإنسان وحقوقه ومظلوميته، بغض النظر عن دينه وقوميته، وهو ما يتعارض مع ما اختلقه الرواة والمؤرخون المزورون في العصرين الأموي والعباسي بشأن وجود مواقف إيجابية لأئمة آل البيت من الفتوحات.

   وفي المقابل؛ كان الأمويون يمارسون أبشع ألوان الطغيان والاستعلاء ضد العراقيين الأصليين، الأمر الذي حوّل العرب من دعاة دينيين الى محتلين متسيِّدين، وحوّل العراقيين الى عبيد مستلبين، وهو ما كان يعبّر عنه والي الأمويين في العراق الحجاج الثقفي بقوله: (( يا أهل العراق .. يا أهل الشقاق والنفاق))، وذلك لأنهم كانوا يعارضون الظالم وحكمه وعقيدته.

(للموضوع تتمة)

ـــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك