دراسات

الاستبداد (٣)


 

محمد عبد الجبار الشبوط ||

 

واجهت المجتمعات الاسلامية بعد سقوط الدولة العثمانية (الاسلامية) في عام ١٩٢٤ تحديا جديدا عبرت عنه ردود افعال بعض الحركات الاجتماعية في بعض البلدان العربية والاسلامية بالدعوة الى اقامة الدولة الاسلامية، وكان في مقدمة هذه الحركات: حزب الاخوان المسلمين (اسسه حسن البنا في مصر عام ١٩٢٨) و  حزب الجماعة الاسلامية (اسسه ابو الاعلى المودودي في الهند عام ١٩٤١) وحزب التحرير (اسسه تقي الدين النبهاني في فلسطين عام ١٩٥٣) وحزب الدعوة الاسلامية (اسسه محمد باقر الصدر في العراق عام ١٩٥٧). وكل هذه الاحزاب ركزت على مصطلحات استعادة الخلافة، او الدولة الاسلامية، او استئناف الحياة الاسلامية، او تطبيق الشريعة الاسلامية.

تزامن مع تأسيس هذه الاحزاب قيام انظمة غير ديمقراطية او دكتاتورية او استبدادية، واضحت هذه الاحزاب وكانها مخيرة بين امرين، اما العمل على اقامة الدولة الاسلامية التي سوف تحل مشكلات بلدانها الاخرى، مثل الاستبداد، او العمل على تحرير شعوبها من الانظمة الاستبدادية، وترك الشعب المحرر من نير هذه الانظمة يختار النظام السياسي الذي يرتضيه. و بعبارة اخرى، بدت هذه الاحزاب مخيرة بين امرين: اسقاط الاستبداد او اسلمة المجتمعات.

النبهاني وحسن البنا والمودوي اختاروا الاسلمة، امام الامام الخميني فقد اختار اولا تحرير بلاده من نظام الشاه المستبد، حتى اسقطه في عام ١٩٧٩ ليدعو الشعب الإيراني الى استفتاء عام حول "الجمهورية الاسلامية".

اما السيد محمد باقر الصدر فله قصة اخرى. ففي مطلع شبابه (٢٦ سنة) ركز الصدر على فكرة الدولة الاسلامية، التي عرّفها بانها "الدولة التي تقوم على اساس الاسلام وتستمد منه تشريعاتها، بمعنى انها تعتمد الاسلام مصدرها التشريعي وتعتمد المفاهيم الاسلامية منظارها الذي تنظر به الى الكون والحياة والمجتمع"، معتبرا ان "الحكم حكمان: حكم الاسلام  حكم الكفر والجاهلية؛ فما لم يكن الحكم اسلاميا مرتكزا على القاعدة الاسلامية فهم حكم الكفر والجاهلية"، كما كتب في "اسس الدولة الاسلامية" عام ١٩٦١.  ولم يناقش الصدر في هذه المرحلة الموقف من النظام الاستبدادي لان المعيار عنده هو الاسلام كعقيدة وشريعة، مقابل الكفر،  وليس الاستبداد مقابل الحرية. لكن الامر تغير بعد ١٩ سنة تقريبا حين كتب الصدر كراس "خلافة الانسان وشهادة الانبياء". في هذا الكراس تحدث الصدر عن الامة المحكومة من قبل نظام "جبار"، اي مستبد، والامة الحرة، وقال: "ما دام صاحب الحق في الخلافة العامة (اي الامة) قاصرا عن ممارسة حقه نتيجة لنظام جبار فيتولى المرجع رعاية هذا الحق في الحدود الممكنة ويكون مسؤولا عن تربية هذا القاصر وقيادة الامة لاجتياز هذا القصور وتسلّم حقها في الخلافة العامة. واما اذا حررت الامة نفسها فخط الخلافة ينتقل اليها فهي التي تمارس البيادة السياسية والاجتماعية..". وواضح من هذا النص، المكتوب بلغة اسلامية، ان الصدر في السنة الاخيرة من عمره اعطى تحرير المجتمع (الامة بمصطلحه) الاولوية، ثم تأتي بعد ذلك الاسلمة.

ولست ادري ان كان الصدر قد اطلع في هذا الوقت على ما كتبه الشيخ النائيني في كتابه "تتبيه الامة" (ص ١٦٤ ) حيث قال:""ان حقيقة الدعوة الى الحرية وخلع طرق عبودية الظالمين، بنص الايات والروايات، مقدم على الدعوة الى التوحيد" لانه من الواضح ان النائيني قدم الحرية، اي اسقاط الاستبداد، على الاسلمة اي اقامة الدولة الاسلامية. ويبدو هذا الكلام منطقيا، لان اقامة الدولة الاسلامية تعتمد على اختيار الناس بحرية ، حيث "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ". فاقامة المجتمع الحر المتحرر من كافة اشكال الاستبداد، مثل الفقر والجهل والخرافة والتخلف، من مقدمات اقامة الدولة الاسلامية. واشتراط هذه المقدمات هي التعبير الاخر عن اصلاح الخلل الحاد في المركب الحضاري وقيمه العليا الحافة بالمركب الحضاري وفي الصدارة منها الحرية.

 

يتبع

ــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ...
الموضوع :
تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41)
منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني
منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
ولي : بعد سنوات اليوم يقبل ابناء عنيفص منفذ المقابر الجماعية بحق الانتفاضة الشعبانية ١٩٩١ في الكلية العسكرية بينما ...
الموضوع :
محكمة جنايات بابل تحكم باعدام الارهابي رائد عنيفص العلواني قاتل 26 مواطنا ودفنهم في حديقة داره ببابل
زياد مصطفى خالد : احسنت تحليل واقعي ...
الموضوع :
مسرحية ترامب مع زيلنسكي والهدف الامريكي !!
ابو حسنين : انظرو للصوره بتمعن للبطل الدكتور المجاهد والصادق جالس امام سيد الحكمه والمعرفه السيد علي السستاني بكل تواضع ...
الموضوع :
المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني يستقبل الطبيب محمد طاهر أبو رغيف
قتيبة عبد الرسول عبد الدايم الطائي : السلام عليكم اود ان اشكركم اولا على هذا المقال واستذكاركم لشخصيات فذة دفعت حياتها ثمنا لمبادئها التي ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
م خالد الطائي : السلام عليكم, شكرا لصاحب المقال, عمي مالك عبد الدايم الطائي: خريج 1970م، تخرج من كلية العلوم بغداد ...
الموضوع :
كلمة وفاء لإعدادية الكاظمية!!
ام زهراء : مأجورين باىك الله فيكم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
علاء عبد الرزاق الانصاري : الاهم صلي على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
فيسبوك