دراسات

الدولة والأنسان..علاقة أفقية

3314 2018-06-24

حيدر العامري

حين تكون الدولة بالفعل تعبيرًا قويًا وتامًا عن الحق والحرية..تكون بذلك قد رسخت فى وعى أبنائها معنيين من أعظم معانى الوجود الإنسانى.. (الحق) الذى خلقت به السموات والأرض.. و(الحرية) التى هى أغنى المعاني عن التعريف، مرتبطة بالإرادة والمشيئة التى منحها الخالق العظيم للإنسان، وتقوم عليها أخص خصائص وجوده وتحققه على الأرض.. فى دولة مركزية تحدها حدود واضحة.. وتطور فكر الدولة عبر التاريخ الحضاري أضافة للحضارة الإنسانية.. سواء كانت كشكل من أشكال النظام القانوني أو كسلطة حاكمة أو حتى كتنظيم اجتماعى يساعد على تحقيق الأهداف العامة وإنجازها.

السلطة بطبيعة الحال هي أوضح تجليات الدولة. ومن تعريفاتها الجديرة بالانتباه أنها (قوة فى خدمة فكرة).. وهذا صحيح وما أفهمه وأؤمن به.. أنه ليست هناك فكرة أسمى وأعمق من فكرة (كرامة الإنسان) وهى بعمقها الديني والاجتماعي والحضاري جديرة بأن تكون لها قوة تحميها وتخدمها.. ولا يناقش أحد في أن السلطة ضرورة اجتماعية.. وهى بالفعل شرط ضرورة لقيام المجتمع الإنساني المنظم واستمراره ونهوضه وتقدمه هي ظاهرة عامة فى كل دولة في كل زمن.. اختلفت المجتمعات والدول فقط فى وضع حدودها والضمانات التى تمنع تغولها وطغيانها على الناس وسلبهم حقهم الطبيعى فى الحياة والحرية والسعادة.

لا يمكن أن يوجد حق دون قانون عادل وصريح، كما أن إحقاق الحق لا يتم بدون تحديد العلاقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية (ملامح السلطة الثلاثة).. توازن القوى والاستقلال بين هذه السلطات من أهم عوامل الاستقرار والأمن الاجتماعى لمنع استبداد إحداها بالقوة وتفردها بها، سواء بشكل مباشر وعلني أو غير مباشر وخفي. وقد لاحظنا أن كل الأنظمة المستبدة كانت على الدوام حريصة على (تفتيت) المجتمع وتحويله إلى (أفراد) لكل فرد منهم (حديقته الخاصة).. وشأنه الخاص.. دائما يقول (أنا) لا يقول (نحن).. وحتى وإن وجدت هذه الكيانات (ماديا) سنجد أن السلطة المستبدة تتآمر عليها لاحتوائها وابتلاعها فى جوفها العميق.. وتحويلها إلى لافتة.. واستخدام الأساليب الخسيسة لتفريغها من معناها.

بالفعل تمت ما يمكن تسميته بشخصنة (الوطن).! ليست الدولة فقط وأجهزتها التى تشخصنت بل (الوطن) ذاته..

وقريب من هذا (الخلط الغريب).. التسويق اليومي لجملة (هدم الدولة).!! وهي الجملة التى إن صحت فى أي مكان آخر فلا يمكن أن تصح فى هذا الوطن وبين هذا الشعب..وبغض النظر عما يكتنف هذا العمق التاريخي من بعض الإشكالات وتفسيراتها وأقوى من كل هذه الاتهامات.. بمعارضة من هنا أو تهديد من هناك.. ما حدث ورأيناه فى الواقع هو تغول الدولة وتمددها لخدمة نفسها ورجالها ومصالحهم فقط.. لا لخدمة الوطن والمواطن.. وإن حدث فلا يكون إلا بالقدر الذى يخدم مصالحها ومصالح تشابكاتها العميقة والخفية.

دولة الحق التى ينشدها العراقيون هى الممارسة (الرشيدة العاقلة) لمفهوم السلطة.. لتكون عملية إبداع دائم للحرية كما يقال.. واحترام الإنسان وصون كرامته وكرامة بيته.. ومعاملته كغاية لا كوسيلة واعتباره المعيار الأسمى لسن وصياغة القوانين والتشريعات التى تعزز وجوده كريما مصانا فى وطنه الذى يفديه بروحه ودمه وكل ما يملك.. فتحميه من كل أنواع الاستعباد والإذلال والاضطهاد التى قد يتعرض لها.

دولة الحق التى ينشدها العراقيون دولة لا تقوم وتستند فى وجودها على العنف والقهر.. ولا (تشرعن) للقسوة ونشر الخوف.. ولا تسمح أبدا بمصادرة الحرية وتكبيل الناس وتهديدهم..وإنما هى دولة يخضع عملها لقواعد سليمة واضحة وتتمسك بالقانون والحق واحترام الحريات وتفصل بين السلطات.. باعتبار هذا الفصل هو الآلية الفعالة لحماية الحق ومنع العنف.

يجب على السلطة القائمة الآن..المسارعة.. والمسارعة العاجلة.. لبناء (علاقة أفقية) بين الدولة والمجتمع وإشراك كل الأطراف وجميع القوى الفاعلة.. فى المشاركة وتسيير الشأن العام وتغليب لغة التفاوض والتشاور والسياسة من أجل تحقيق وترجمة (مشروع سياسي عظيم) وممكن.. أليست السياسة هي "القدرة على التعامل مع القوى المختلفة والتنافس والصراع الاجتماعي".. كما يعرفها أحد المفكرين.

وإذا كانت السياسة أيضا هي (ميكانيكا القوة) كما يقولون.. فإن (الأمة- الشعب) هى مصدر السلطات وهى مصدر القوة كـ (سلطة سياسية وحكومة شرعية) تعبر عن إرادة الناس من خلال هيئات قانونية ومؤسسات دستورية يساهم الناس مساهمة فعلية في تكوينها.. والناس من جانبهم مطالبون بمراقبة هذه الهيئات ومحاسبتها وتغييرها حال الضرورة.. أما (القوة الغاشمة) التى مصدرها (التفويض) والتى تتحول إلى (سلطة قهر) على الناس وتحملهم على الخضوع والإذعان وتقوم كل يوم بتخويف الناس وإرهابهم ومصادرة حريتهم وتحول دون حقهم الطبيعى فى العيش الكريم الآمن.. ومشاركتهم فى مؤسسات الحكم والقرار.. هى ليست ( قوة) هى محض (عنف) وعمل ضد القانون والحق لهدم الإنسان وكرامته وكيانه كمواطن ينتمى إلى أمة ووطن.. حتى يصبح مسخا يسهل (جرجرته) إلى ما لا يعلم من المجهول.

قوة الحق فى عرف الدولة تقوم على السلم الاجتماعى والأهلى.. بما يؤسس لحالة سياسة وتفاهم.. وليس العنف.. (العنف هو دوما عنف) كما قال أحد المفكرين.. أنه رذيلة.. ووباء.. الحق يمارس بإرادة (الإنسان الشريف) ويضمن للناس حرياتهم المشروعة. العنف لا يعبر عن الناس وإرادتهم واختياراتهم التاريخية.

لا وجود لحق خارج إطار (القانون) المتجسد في المؤسسات القضائية والتنفيذية التى تفرضه فى الواقع.. وحينما نتحدث عن جمع الدولة بين الحق والقوة- التى هي ضرورة للتنظيم الاجتماعي-.. فإننا نتحدث عن العلاقة بين الدولة كأجهزة ومؤسسات.. و(المواطن) الذى ارتضى قوانينها. فإذا نشأت هذه العلاقة على احترام الأخلاقيات المتعارف عليها والقوانين المتعاقد عليها.. فإن دور الدولة هنا دور عظيم ووطني.. وقبل كل شىء مشروع ونكون ساعتها نتحدث عن (دولة الحق) التى ننشدها ولن نقبل بغيرها.

أما إذا كانت هذه العلاقة مبنية على أسس غير أخلاقية وغير قانونية وغير تعاقدية فإنها ستكون قائمة على الإكراه والإرغام، وهضم الحقوق والحريات الخاصة والعامة... (الحكم) لا يمكن أن يكون (شرعيا) وفى نفس الوقت غير (مشروع ) يهدر القوانين الموجودة فى نصوص الدستور الذى هو فى جوهره (السند القانوني) فى الحكم وتنظيم العلاقات بين الشعب.

السياسة حتى تكون سياسة يجب أن تتجلى فى العلاقات بين الناس فرادى وجماعات فى المجتمع القوى.. ترتقى باختلافهم وتمايزهم وتحقق فكرة المساواة والمواطنة رغم اختلافهم وتنوع أفكارهم ورؤاهم.. اقتران السياسة بالسيطرة والغلبة والعنف والقهر ليس قدرا محتوما علينا..السياسة هى (التحاور والتواصل والتداول).. وهذا ما نريد أن نراه بعد اسقاط الصنم للقضاء على الجمود والقهر والتبلد السياسى.

فى دولة الحق تقوم (مؤسسات الأمن وأجهزته)على فكرة الوعي والعلم والمعرفة والخبرة وتكون خاضعة (إشرافا ومراقبة ومحاسبة) للقانون والنظام العام وللسلطة (المنتخبة شرعيا) التى تدير شؤون الدولة والمجتمع بحيث يكون الهدف من الأمن فى النهاية هو تحقيق راحة وخير المواطن فى فضاء الصالح العام.. وهذه الهياكل والإدارات الأمنية القانونية يكون ولاؤها محصوراً ومتركزاً فقط فى (الولاء للوطن) وليس للفرد الحاكم أو السلطة القائمة الحاكمة المتغيرة كما تكون خاضعة لأسس وضوابط ومعايير قانونية علنية وشفافة وتشرف على عملها مؤسسات رقابية وهيئات تشريعية مثل البرلمان، وأيضا رقابة منظمات المجتمع المدني.. وليست من (جهات) مفروضة بالقوة من قبل مراكز تابعة لنخبة عليا مهيمنة أبعد ما تكون عن قيم المواطنة والقيم الوطنية وأخلاقيات الضمير الإنساني المعروفة.

يجب أن نعي الفارق بين (مفهوم الأمن) الذى يهدف إلى تأمين مصالح الناس وحمايتهم وراحتهم، وتحقيق متطلباتهم واحتياجاتهم ومنع الإضرار بهم.. وبين (مفهوم القمع) الذى يكون فى (دولة الشخص) تابعا للسلطة ومواليا لها وضامنا لبقائها فى الحكم لأطول فترة زمنية يمكن البقاء فيها..وهي بدورها تصرف وتنفق وتبذخ على مؤسسات وأجهزة (القمع) وتستثمر فى بناء السجون والمعتقلات أكثر بكثير مما تستثمره وتنفقه على التعليم والصحة.

دول ما بعد الاستقلال فى العالم العربى قامت على كم هائل من مفاهيم وأدوات القمع والكبت والقسر والعنف وإلغاء السياسة من المجتمع وإلغاء المجتمع من السياسة.. قامت فقط على مفهوم وقاعدة الأمن بمعناه الإكراهى غير المقيد والمنفلت من أى قواعد أو معايير وأسس قانونية ملزمة ورادعة ومحددة بضوابط واضحة وشفافة.

والتحقت بهذا الفهم للأسف نخب سياسية وثقافية.. واجتمعت كلها على قسر وكسر إرادة الناس باستخدام شتى فنون القهر والإذلال المعنوى والعضوى باستمرار تخويف الفرد وتكبيل قدرته.. ليكون دائما محتاجا وخانعا ومطواعا وسهل الانقياد، حتى يخرج تماما من دائرة الفعل والتأثير فى الشأن العام الواسع، ويبقى محسورا محاصرا فى دائرته الضيقة وشأنه الخاص الذى هو أيضا لم يسلم من التهديد والانتهاك من قبل تلك الأجهزة القمعية.. لا يمكن أن يقف أحد ضد قيام الأمن بواجبه الحقيقي فى التصدى للجريمة والحفاظ على الأمن.. والخوف على مستقبل الوطن كله....نريد لــ (فكرة الأمن) أن تتأسس على رؤية قانونية وثقافية وحضارية بعيدة كل البعد عن (فكرة القمع) القائم على إلغاء (المواطن) وإخراجه بالكامل من دائرة الفعل السياسى والعمل العام.

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك