يمثل ملف القوات الأجنبية في العراق واحداً من أكثر القضايا تعقيداً منذ 2003، إذ ارتبط أولاً بوجود التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب، وثانياً بتوسع التدخلات العسكرية الإقليمية، وعلى رأسها الوجود التركي في شمال البلاد. فالدستور العراقي نصّ بوضوح على أن السيادة الوطنية خط أحمر لا يجوز التنازل عنه، في حين أن اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن وفرت غطاءً قانونياً للوجود الأمريكي، ولو بصورة مثيرة للجدل، بينما بقي الوجود التركي خارج أي إطار تعاقدي رسمي، ما جعله عرضة لوصفه بالتجاوز أو الاحتلال. في هذا السياق، يبرز الربط بين إعلان جدول الانسحاب الأمريكي وبين مستقبل القوات التركية في إقليم كردستان كمسألة تتجاوز الأمن لتصل إلى صميم مفهوم السيادة والدور المؤسسي للدولة.
انسحاب التحالف وسقوط مبررات الوجود
جاء إعلان الانسحاب الأمريكي بعد تراجع خطر تنظيم داعش وانتهاء مبررات التحالف الدولي الذي تأسس عام 2014 لمساندة العراق. يوضح السياسي الكردي نجاة نجم الدين خلال حديثه مع "بغداد اليوم"، أن "الانسحاب الأمريكي وسحب كل قوات التحالف الدولي من العراق، جاء بعد انتهاء خطر داعش، وبما أن وجود القوات التركية على الأراضي العراقية بحجة وجود حزب العمال الكردستاني، فإن الحزب أعلن حل نفسه وتسليم السلاح".
هذا الربط يعكس منطقاً سياسياً يساوي بين تلاشي الخطر الإرهابي الذي استندت إليه واشنطن وحلفاؤها، وبين زوال الذريعة التي تلوّح بها أنقرة لتبرير وجودها العسكري شمال العراق. وفق تقديرات قانونية، فإن استمرار القوات التركية بعد زوال السبب المعلن يُعد انتهاكاً مباشراً لسيادة الدولة، ما يستدعي تحركاً مؤسسياً حاسماً من بغداد.
المسؤولية المؤسسية للحكومة والبرلمان
يرى نجم الدين أن "الخطوة التي يجب أن تناقشها الحكومة العراقية والبرلمان خلال الفترة المقبلة، هو إنهاء الوجود التركي، لأن وجودهم يعد احتلالاً، خاصة بعد زوال السبب الذي كانوا يتحججون به".
هذا الطرح يعكس انتقال الملف من دائرة النقاش السياسي إلى مسؤولية المؤسسات التشريعية والتنفيذية. فبينما حُسم ملف الوجود الأمريكي عبر التفاهمات الرسمية مع واشنطن، ما يزال الملف التركي غائباً عن أجندة القرارات الواضحة في البرلمان العراقي. وتشير المداولات الدستورية إلى أن معالجة هذا الملف تتطلب توافقاً وطنياً، إذ يرتبط بالمادة (8) من الدستور التي تلزم الدولة بالحفاظ على سيادتها وإقامة علاقات متوازنة مع جيرانها.
الفارق بين واشنطن وأنقرة
يشدد نجم الدين على أن "الوجود الأمريكي في العراق كان ضمن اتفاقية منصوص عليها بين بغداد وواشنطن، لكن وجود القوات التركية ليس فيه أي اتفاق أمني إطلاقاً، وإنما يعد تجاوزاً على السيادة العراقية".
هذا التمييز بين الوجود الأمريكي والتركي يعكس اختلافاً جوهرياً في طبيعة الوجودين. فالأول جاء بناءً على إطار تفاهمي يمكن الاحتكام إليه في المفاوضات، أما الثاني فيفتقر لأي مرجعية قانونية ملزمة، ما يضعه في خانة "الاحتلال غير المشروع". وفق دراسات بحثية، فإن غياب الإطار القانوني هو ما يجعل أنقرة أكثر قدرة على المناورة والتمسك بمصالحها الأمنية في شمال العراق، بينما يضع بغداد في موقف ضعيف ما لم تتحرك مؤسساتها بشكل صريح لوضع حد للتجاوز.
يتضح من المعطيات أن ما تغيّر هو انتهاء مبررات بقاء قوات التحالف الدولي بعد تراجع خطر داعش، وزوال ذريعة حزب العمال الكردستاني مع إعلانه حل نفسه. أما ما لم يتغيّر فهو استمرار الوجود التركي على الأراضي العراقية من دون غطاء قانوني، ما يعكس ثغرة سيادية واضحة. الأثر المتوقع يتمثل في تصاعد المطالب المؤسسية لإنهاء هذا الوجود، خصوصاً مع دخول البرلمان والحكومة كأطراف مسؤولة عن رسم موقف رسمي. الخلاصة أن مستقبل السيادة العراقية بات مرتبطاً بالقدرة على تحويل هذا الجدل السياسي إلى إجراءات قانونية ودبلوماسية تضع حداً للتدخل التركي، وتؤسس لمرحلة جديدة تُعيد التوازن للعلاقة بين بغداد وأنقرة.
https://telegram.me/buratha
