الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب الإمام الباقر عليه السلام قدوة و أسوة المؤلف للسيد محمد تقي المدرسي: وعلم أئمة أهل البيت عليهم السلام لا يخرج من دائرة هذه السنن أيضاً، فإما أنَّه مستوحىً من الوحي أو بالإلهام. ويتصل علم الأئمة بالوحي عبر السبل التالية: أولًا: العلم من كتاب الله، بالتدبر فيه وتأويل آياته على الحقائق والوقائع. أليس في القرآن علم ما كان وما يكون، وفصل ما هو كائن؟ ومن أولى بكتاب الله ممن أُنزل في بيوتهم وزُقُّوا علمه مع اللبن زقاً؟ وقد كان الأئمة عليهم السلام شديدي الوَلَهِ بالقرآن، عظيمي الاحترام له، وكانوا يختمونه في كل ثلاثة أيام مرة، وربما في كل يوم، وكانوا يقولون: إنهم يستفيدون منه علماً جديداً كلما أعادوا قراءته، حتى أنهم استفادوا علم الآفاق من آياته الكريمة، فقد قال الإمام الصادق عليه السلام فيما روي عنه: (وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ، وَأَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْضِ، وَأَعْلَمُ مَا فِي الدُّنْيَا، وَأَعْلَمُ مَا فِي الْآخِرَة). فَرَأَى تَغَيُّرَ جَمَاعَةٍ فَقَالَ وهو يخاطب بكير بن أعين: (يَا بُكَيْرُ إِنِّي لَأَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِذْ يَقُولُ: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ" (النحل 89)). ثانياً: أحاديث الرسول صلى الله عليه واله والتي توارثوها من آبائهم عبر جدهم الأعلى الإمام أمير المؤمنين، وجدتهم الطاهرة فاطمة الزهراء عليهم السلام. فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال لجابربن عبد الله: (يَا جَابِرُ! إِنَّا لَوْ كُنَّا نُحَدِّثُكُمْ بِرَأْيِنَا وَهَوَانَا لَكُنَّا مِنَ الهَالِكِينَ، وَلَكِنَّا نُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثَ نَكْنِزُهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله كَمَا يَكْنِزُ هَؤُلَاءِ ذَهَبَهُمْ وَوَرِقَهُم). ومعروف أن خزائن علم النبوة كانت قد انتقلت إلى رسول الله صلى الله عليه واله، وورثها أهل بيته عليهم السلام. ويبدو أنها كانت مكنونة في جفر عظيم. حيث جاء في الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (إِنَّ عِنْدِي الجَفْرَ الْأَبْيَضَ). فلما سأله الرواي: فَأَيُّ شَيْءٍ فِيهِ؟ قَال: (زَبُورُ دَاوُدَ، وَتَوْرَاةُ مُوسَى، وَإِنْجِيلُ عِيسَى، وَصُحُفُ إِبْرَاهِيمَ، وَالحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ، مَا أَزْعُمُ أَنَّ فِيهِ قُرْآناً، وَفِيهِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْنَا وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ، حَتَّى فِيهِ الجَلْدَةُ وَنِصْفُ الجَلْدَةِ وَرُبُعُ الجَلْدَةِ وَأَرْشُ الخَدْش) الحديث.
وعن علم الإلهام يقول آية الله السيد محمد تقي المدرسي: إذا كان العلم نور الله يقذفه في قلب من يشاء فما الذي يمنع عن قذف نور العلم في قلب أوليائه؟ هكذا كان من مصادر علم الأئمة عليهم السلام الإلهام، والذي ترافقه سكينة تجعلهم يثقون بأنه من عند الله. كذلك روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (إِنَّ عِلْمَنَا غَابِرٌ وَمَزْبُورٌ وَنَكْتٌ فِي الْقُلُوبِ وَنَقْرٌ فِي الْأَسْمَاعِ. فَقَالَ: أَمَّا الْغَابِرُ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلْمِنَا، وَأَمَّا المَزْبُورُ فَمَا يَأْتِينَا، وَأَمَّا النَّكْتُ فِي الْقُلُوبِ فَإِلهَامٌ، وَأَمَّا النَّقْرُ فِي الْأَسْمَاعِ فَأَمْرُ المَلَك). وروى زرارة مثل هذا الحديث وأضاف: (قُلْتُ: كَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ المَلَكَ وَلَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ لَا يَرَى الشَّخْصَ قَالَ: (إِنَّهُ يُلْقَى عَلَيْهِ السَّكِينَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مِنَ المَلَكِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ اعْتَرَاهُ فَزَعٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ- يَا زُرَارَةُ- لَا يَتَعَرَّضُ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْر). وعلم الإمام الباقر عليه السلام- كما سائر أئمة الهدى عليهم السلام- انبعث من هذه الروافد، فلم يكن غريباً، ما أظهر الله على لسانه من معارف الدين. حتى قال الشيخ المفيدJ : (لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما السلام من علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن وسيرة وفنون الآداب ما ظهر عنه). من هنا ترى عظماء الفقه والحديث يعترفون بالمصدر الإلهي لعلمه الغزير، فقد جاء في كشف الغمة عن الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي في كتابه (معالم العترة الطاهرة) عن الحكم بن عتيبة (وكان من كبار فقهاء عصره) أنه قال في تفسير قوله تعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ" (الحجر 75). قال: كان والله محمد بن علي منهم).
ويستطرد سماحة السيد المدرسي في كتابه عن علم الالهام قائلا: لقد كان عبد الله بن نافع بن الأزرق واحداً من قادة الخوارج الذين كانوا أشد الفرق عداءً للإمام علي عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام، وكان يقول: (لَوْ أَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ بَيْنَ قُطْرَيْهَا أَحَداً تُبْلِغُنِي إِلَيْهِ المَطَايَا يَخْصِمُنِي أَنَ عَلِيًّا عليه السلام قَتَلَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ وَهُوَ لَهُمْ غَيْرُ ظَالِمٍ لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: وَلَا وَلَدَهُ. فَقَالَ: أَفِي وُلْدِهِ عَالِمٌ؟ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا أَوَّلُ جَهْلِكَ. وَهُمْ يَخْلُونَ مِنْ عَالِمٍ؟ فقَالَ: فَمَنْ عَالِمُهُمُ الْيَوْم؟ قِيلَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِبْنِ عَلِيٍّ عليه السلام. قَالَ: فَرَحَلَ إِلَيْهِ فِي صَنَادِيدِ أَصْحَابِهِ حَتَّى أَتَى المَدِينَةَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فَقِيلَ لَهُ: هَذَا عَبْدُاللهِ بْنُ نَافِعٍ. فَقَالَ: وَمَا يَصْنَعُ بِي وَهُوَيَبْرَأُ مِنِّي وَمِنْ أَبِي طَرَفَيِ النَّهَار؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَصِيرٍ الْكُوفِيُّ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّ بَيْنَ قُطْرَيْهَا أَحَداً تُبْلِغُهُ المَطَايَا إِلَيْهِ يَخْصِمُهُ أَنَّ عَلِيًّا عليه السلام قَتَلَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ وَهُوَ لَهُمْ غَيْرُ ظَالِمٍ لَرَحَلَ إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: أَتَرَاهُ جَاءَنِي مُنَاظِراً؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: يَا غُلَامُ اخْرُجْ فَحُطَّ رَحْلَهُ وَقُلْ لَهُ: إِذَا كَانَ الْغَدُ فَأْتِنَا. قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ عَبْدُاللهِ بْنُ نَافِعٍ غَدَا فِي صَنَادِيدِ أَصْحَابِهِ، وَبَعَثَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام إِلَى جَمِيعِ أَبْنَاءِ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فِي ثَوْبَيْنِ مُمَغَّرَيْنِ، وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ كَأَنَّهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ، فَقَالَ: (الحَمْدُ لِلَّهِ مُحَيِّثِ الحَيْثِ وَمُكَيِّفِ الْكَيْفِ وَمُؤَيِّنِ الْأَيْنِ. الحَمْدُ للهِ الَّذِي "لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ" (البقرة 255) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه واله عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنُبُوَّتِهِ، وَاخْتَصَّنَا بِوَلَايَتِهِ. يَا مَعْشَرَ أَبْنَاءِ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ! مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَنْقَبَةٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَلْيَقُمْ وَلْيَتَحَدَّثْ). قَالَ: فَقَامَ النَّاسُ فَسَرَدُوا تِلْكَ المَنَاقِبَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَنَا أَرْوَى لِهَذِهِ المَنَاقِبِ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَ عَلِيٌّ الْكُفْرَ بَعْدَ تَحْكِيمِهِ الْحَكَمَيْنِ، حَتَّى انْتَهَوْا فِي المَنَاقِبِ إِلَى حَدِيثِ خَيْبَرَ: (لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَداً رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، كَرَّاراً غَيْرَ فَرَّارٍ، حتى لَا يَرْجِعُ [حَتَّى] يَفْتَحَ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ). فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَال: هُوَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَكِنْ أَحْدَثَ الْكُفْرَ بَعْدُ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَخْبِرْنِي عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَحَبَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ أَحَبَّهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ؟ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لَا، كَفَرْتَ. قَالَ: فَقَالَ: قَدْ عَلِمَ، قَالَ: فَأَحَبَّهُ اللهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَتِهِ أَوْ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِمَعْصِيَتِهِ؟ فَقَالَ: عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَتِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: فَقُمْ مَخْصُوماً. فَقَامَ وَهُوَ يَقُولُ: "حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ" (البقرة 187)، "اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ" (الأنعام 124)).
https://telegram.me/buratha
