الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى عن آل عمران "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ" (ال عمران 33) افتتاح لقصص عيسى بن مريم وما يلحق بها وذكر حق القول فيها، والاحتجاج على أهل الكتاب فيها، وبالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب. قوله تعالى : "إِنَّ اللَّهً اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً" إلى آخر الآية الاصطفاء كما مر بيانه في قوله تعالى: "وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا" (البقرة 130)، أخذ صفوة الشيء وتخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام، وهو جري العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له. لكن ذلك غير الاصطفاء على العالمين، ولو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال: من العالمين، وأفاد اختصاص الإسلام بهم واختل معنى الكلام، فالاصطفاء على العالمين، نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم. ومن الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ" (آل عمران 42)، حيث فرق بين الاصطفاءين فالاصطفاء غير الاصطفاء. وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحا، فأما آدم فقد اصطفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض، قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" (البقرة 30)، وأول من فتح به باب التوبة. قال تعالى: "ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى" (طه 122)، وأول من شرع له الدين، قال تعالى: "فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى" (طه 123)، فهذه أمور لا يشاركه فيها غيره، ويا لها من منقبة له عليه السلام.
ويستطرد العلامة السيد الطباطبائي قدس سره في تفسيره الآية المباركة آل عمران 33 قائلا: و أما نوح فهو أول الخمسة أولي العزم صاحب الكتاب والشريعة كما مر بيانه في تفسير قوله تعالى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ" (البقرة: 213)، وهو الأب الثاني لهذا النوع، وقد سلم الله تعالى عليه في العالمين، قال تعالى: "وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ" (الصافات: 77 - 79). ثم ذكر سبحانه آل إبراهيم وآل عمران من هؤلاء المصطفين، والآل خاصة الشيء، قال الراغب في المفردات: الآل قيل مقلوب عن الأهل، ويصغر على أهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة، يقال آل فلان ولا يقال: آل رجل وآل زمان كذا، أو موضع كذا، ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل، يقال آل الله وآل السلطان، والأهل يضاف إلى الكل، يقال: أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا وبلد كذا، وقيل هو في الأصل اسم الشخص ويصغر أويلا، ويستعمل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة، فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران خاصتهما من أهلهما والملحقين بهما على ما عرفت. فأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسرائيل والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذريته، وسيدهم محمد صلَّ الله عليه وآله وسلم، والملحقون بهم في مقامات الولاية إلا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدل على أنه لم يستعمل على تلك السعة فإن عمران هذا إما هو أبو مريم أو أبو موسى عليه السلام، وعلى أي تقدير هو من ذرية إبراهيم وكذا آله وقد أخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذريته الطاهرين لا جميعهم. و قد قال الله تعالى فيما قال: "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا" (النساء: 54)، والآية في مقام الإنكار على بني إسرائيل وذمهم كما يتضح بالرجوع إلى سياقها وما يحتف بها من الآيات، ومن ذلك يظهر أن المراد من آل إبراهيم فيها غير بني إسرائيل أعني غير إسحاق ويعقوب وذرية يعقوب وهم أي ذرية يعقوب بنو إسرائيل فلم يبق لآل إبراهيم إلا الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، وفيهم النبي وآله.
يقول السيد الطباطبائي في كتابه الميزان كذلك عن اصطفاء الأنبياء عليهم السلام عند تفسيره للآية آل عمران 33: على أنا سنبين إن شاء الله أن المراد بالناس في الآية هو رسول الله صلَّ الله عليه وآله وسلم، وأنه داخل في آل إبراهيم بدلالة الآية. على أنه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا" (آل عمران 68)، وقوله تعالى: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ" (البقرة 127 - 129). فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، والآية ليست في مقام الحصر فلا تنافي بين عدم تعرضها لاصطفاء نفس إبراهيم واصطفاء موسى وسائر الأنبياء الطاهرين من ذريته من طريق إسحاق وبين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم وسمو شأنهم وعلو مقامهم، وهي آيات متكثرة جدا لا حاجة إلى إيرادها، فإن إثبات الشيء لا يستلزم نفي ما عداه. و كذا لا ينافي مثل ما ورد في بني إسرائيل من قوله تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" (الجاثية 16)، كل ذلك ظاهر. ولا أن تفضيلهم على العالمين ينافي تفضيل غيرهم على العالمين، ولا تفضيل غيرهم عليهم فإن تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنما يستلزم تقدمهم في فضيلة دنيوية أو أخروية على من دونهم من الناس، ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعني آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافي بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، وهو ظاهر. ولا أن تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافي وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضل الله النبيين على سائر العالمين وفضل بعضهم على بعض، قال تعالى: "وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ" (الأنعام 86)، وقال أيضا: "وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ" (الإسراء 55). وأما آل عمران فالظاهر أن المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات التي تذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنة عمران، وقد تكرر ذكر عمران أبي مريم باسمه في القرآن الكريم، ولم يرد ذكر عمران أبي موسى حتى في موضع واحد يتعين فيه كونه هو المراد بعينه، وهذا يؤيد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم عليها السلام وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى عليهما السلام أو هما وزوجة عمران. و أما ما يذكر أن النصارى غير معترفين بكون اسم أبي مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم.
https://telegram.me/buratha
