طاهر باقر
الاختلاف بين المسلمين هو نتيجة طبيعية لعدم فهم القرآن الكريم بالشكل الصحيح، لأن الله سبحانه وتعالى هو نفسه الذي حدد الكتاب والسنة لحل الاختلاف بين المسلمين وهم اليوم متفقون على حجتيهما لكن مع ذلك هم مختلفون وكل يوم يشتد الاختلاف بينهم الى درجة اصبح صوت المشايخ الذين يكفرون المسلمين اعلى من صوت القرآن وجعلوا انفسهم مكان الله ويصنفون البشر هذا كافر وهذا مسلم وذاك مرتد مع انهم لو يفهمون القرآن يدركون ان التكفير محرم ولكن القليل من المسلمين من يتدبر ويتعمق في القرآن الكريم ويأخذ الفكر الاسلامي من معدنه الاصلي وليس من مشايخ التكفير!
من هنا اصبح التدبر في القرآن الكريم حاجة ملحة لكافة المسلمين وضرورة فردية لانقاذ الشخص نفسه من براثن الضياع والتيه التي جذبت ملايين الناس الى قاع السقوط، ونحن في هذا العصر الذي تزداد فيه الفتن فتكا بالناس نرى رسول الله واهل بيته صلى الله عليهم اجمعين يشيرون باصبعهم الى القرآن الكريم بانه المنقذ عند تلاطم الفتن وفي هذا المقام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على السبيل، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل، هو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم الله وباطنه علم الله تعالى، فظاهره وثيق، وباطنه له تخوم، وعلى تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف النصفة، فليرع رجل بصره، وليبلغ النصفة نظره، ينجو من عطب ويتخلص من نشب فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير والنور يحسن التخلص ويقل التربص". (١)
وفي مثل هذه العتمة التي نسير فيها احوج مانكون الى القرآن الكريم ليضيئ لنا دروب الحياة من خلال التدبر في القرآن الكريم لان القراءة وحدها لاتكفي لمشاهدة النور الذي يسطع من القرآن الكريم وفي هذا قال الإمام علي عليه السلام (ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه) (2) والمرء ذو البصيرة هو الذي يستطيع ان يشاهد هذا النور ومن اقفل قلبه بحب الدنيا والاهواء المضرة لن تسطع له تلك الانوار وقد تحدث الله سبحانه وتعالى عن ذلك وذكر انه على قلبه اقفال لايستطيع معها رؤية جمال القرآن الكريم ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (3)
التدبر : هو التأمل والتفكر في آيات الله واستخلاص العبر منها، والتعرف على اهدافها وغاياتها، والرسائل التي يريد الله سبحانه ان يوصله الينا من خلالها، وبسبب وجود الاقفال المتراكمة على القلب لن يكون الانسان مستعدا في كل الاوقات للتدبر وبسبب الذنوب يجد الانسان صعوبة في ان يتوجه الى القرآن الكريم لذا يجب ان يكون على وضوء حتى يستشعر الروحانية في قلبه والقرب من القرآن الكريم عندها سيتمكن من كسر الاغلال والاقفال الصدأة الموجودة على قلبه، ومن ضمن عوامل التهيئة النفسية ان ياتي المتدبر في القرآن الكريم بروحية التتلمذ والتعلم وان يتبع هذا المنهج:
اولا/ طرح الاستفهامات على الآية:
يسأل المتدبر؛ لماذا قال الله سبحانه وتعالى هذه الكلمة في هذه الآية ولم يقل كلمة مشابهة او مرادفة لها؟ لماذا اتت العبارة بهذه الطريقة ولم تات بطريقة اخرى؟ لماذا اتت هذه الكلمة في مثل هذا الموضع؟ وماهي العلاقة بين الكلمات والعبارات المختلفة؟ والكثير من الاسئلة التي يطرحها المتدبر على آيات القرآن الكريم ويحاول الاجابة عنها من خلال الاستعانة بالعلوم الموجودة واهمها اللغة العربية، ولنضرب مثالا على ذلك، هذه الآية التي وردت في القرآن الكريم (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (4) وهنا اتت كلمة "استحياء" مابين المشي والقول فهل كان المراد هو المشي على استحياء ام المراد ان يكون قولها على استحياء؟ نستشف من وضع كلمة "الاستحياء" في الوسط بان المعنيين مقصودان في الآية والمراد هو التأكيد بان الحياء في المشي والقول هما ممدوحان في الشريعة الاسلامية بالنسبة الى الفتيات.
واضافة الى ماذكرنا من هذا الاسلوب بطرح الاستفهامات على الآية القائمة امامنا لمعرفة معانيها واهدافها وغاياتها هناك اسلوب اكثر روعة وابتكار هو ان نطرح الاسئلة على القرآن الكريم حتى نرى موقف القرآن الكريم من القضية التي نحن بصددها ونضرب مثلا على ذلك موضوع "الانتصار على الاعداء" وهو احد الموضوعات التي شغلت بالي طويلا واردت الحصول على اجوبتي من القرآن الكريم وقد وجدت الجواب الشافي لاسئلتي حيث وجدت ان النصر هو وعد الهي للمؤمنين خاصة وليس للمسلمين عامة وهناك شروط لن يتحقق النصر الالهي من دونها، ومن اهم هذه الشروط هي الايمان.
ثانيا/ القرآن يفسر بعضه بعضا:
الكلمة التي نحن بصددها ونريد ان نعرف معناها هي واردة في مواقع مختلفة من القرآن الكريم وربما نجد مايتمم معناها في آيات اخريات وعلى سبيل المثال نقرء في سورة الفاتحة "صراط الذين انعمت عليهم" وهنا نجري بحثا في القرآن الكريم عن الذين انعم الله عليهم سنجد آية اخرى توضح لنا ببساطة من هم هؤلاء؟ والآية تقول ( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا ) (5) فهذه الآية بينت لنا من هم الذين انعم الله عليهم! وهنا نصل الى اكتشاف عميق يزيد الفرحة واليقين في قلوبنا بعظمة القرآن الكريم وانه من عند الله ونضرب مثالا آخرا على كلمة المحسنين وعندما نجمع كل الآيات التي وردت في المحسنين سنعرف منهم المحسنين وماهي صفاتهم ومالذي فعلوه ليصبحوا محسنين وماذا ستكون درجتهم في الآخرة، ولو مررنا بكلمة الظالمين سنجد عشرات الآيات التي تتحدث عنهم واذا جمعناها سنحصل على ملف واسع عن هذه الفئة.
ثالثا/ الاستعانة باللغة العربية:
يستعين المتدبر في القرآن الكريم بقواميس اللغة العربية لتحديد المعنى الدقيق للكلمة التي جاءت في الآية الكريمة، وذلك ان القرآن الكريم نزل باللغة العربية ومن اجل فهمه يجب ان نطلع على معنى الكلمة التي نريد التدبر فيها من كتب اللغة العربية وقال رب العزة والجلال (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (6) وكلما ازداد الانسان معرفة باللغة العربية تذوق طعم وحلاوة القرآن الكريم وقد يكون الفرق بحرف واحد هو يغير المعنى تماما (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (7) وكان لابد ان يقول كتب الله "علينا" وليس "لنا" لكنه اراد ان يبين ان تلك الاصابات ستكتب لصالحه وان تلك المصائب ستكون لمصلحته والآية التي تليها تكشف هذا الامر (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) (8) يعني في خاتمة الامر سيصيب المسلمون اما النصر او الشهادة وهي احدى الحسنيين.
رابعا/ الاستعانة بتفسير اهل بيت النبوة:
هناك كلمات لايمكن ان يصل الى عمقها الا امام معصوم ولو دققنا في التفاسير التي لاترجع الى النبي واهل بيته عادة مايشوبها الخطأ ومنها تفسير هذه الآية في قصة النبي يوسف عليه السلام مع زليخا ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا....) (9) فللوهلة الاولى يظن القارئ ان ماقامت به زليخا هو شبيه لمااراد يوسف عليه السلام ان يفعله بمعنى انه هو الآخر عزم على ارتكاب المعصية والقول بذلك هي جريمة بحق نبي معصوم، بينما نحن الشيعة وبسبب اعتمادنا على تفسير الائمة من اهل البيت صلوات الله عليهم عصمنا الله من الوقوع في الخطأ ونجد في تفسير الامام الرضا عليه السلام لهذه الآية " ولقد همت به وهم بها " فإنها همت بالمعصية وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما داخله فصرف الله عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله: " كذلك لنصرف عنه السوء " يعني القتل " والفحشاء " (10) بينما نجد في تفاسير الآخرين كلام مضحك بان يوسف عليه السلام حل سراويله وجعل يعالج ثيابه وحاشى له ذلك!
خامسا/ فهم الآية ضمن السياق العام:
عندما تتحدث السورة عن موضوع واضح مثل سورة "المنافقون" فمعظم آيات السورة تدور في هذا الاطار وتتجه في سياق واحد مع موضوع السورة (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) المنافقون (1) فيبين الله سبحانه وتعالى اقوال وافعال المنافقين واول صفة يتصفون بها هي الكذب.
وهناك آية اخرى نفهم من خلال سياقها معاني الكلمات التي يتعذر علينا فهمها مثل آية (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) (11) وحتى نعرف معنى كلمة "ابا " سنجد ان الآية التي تليها توضح بشكل كامل معنى هذه الكلمة عندما يقول عزوجل "مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ" فالفاكهة هي طعام الانسان و"ابا" بلا شك هي طعام الانعام.
سادسا/ الاستعانة بالاحاديث الشريفة:
لايمكن الاستغناء عن احاديث النبي واهل بيته بخصوص معاني الكثير من الآيات الحساسة والدقيقة ومنها هذه الآية ( إٍِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (12) فمن لايستعين بالنبي وائمة الهدى لمعرفة القرآن الكريم هو سيقول بان المقصودين بهذه الآية هم نساء النبي لان سياق الآيات السابقة كانت تتحدث عن نساء النبي لكن؛ عندنا العشرات من احاديث النبي الاكرم التي توضح من هم اهل البيت.
سابعا/ الاستعانة باسباب النزول:
هناك آيات تتحدث عن شخص معين او حادثة معينة او موضع محدد وكل ذلك بحاجة الى اسباب النزول لبيان وتوضيح الآية ومعانيها وعلى سبيل المثال ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (13) سياق الآية يبين انها تتحدث عن شخص معين وعن حادثة وقعت بالفعل وعندما نرجع الى اسباب النزول نجد ان هذه الآية لها قصة معروفة وانها نزلت بسبب حادثة تاريخية وقعت في زمن رسول الله ونقل الجصاص في أحكام القرآن: ( . . روي عن مجاهد السدي وأبي جعفر وعتبة بن أبي حكيم : إنها نزلت في علي بن أبي طالب ( ع ) حين تصدق بخاتمه وهو راكع . . . ) هذا وقد نقل جمع كبير من علماء المسلمين أحاديث في نزولها في علي عليه السلام وهي ظاهرة الدلالة في حقه بالولاية والامامة.
بقلم: طاهر باقر
------------------------------------------------------------------------------
الهوامش :
(1) نوادر الراوندي: ٢١، ٢٢ .
(2) البحار: ٩٢ / ٢١١ / ٤ وص ٢١٦ / ٢٢.
(3) سورة محمد : (24)
(4) سورة القصص: (25)
(5) سورة النساء : (69)
(6) سورة يوسف : (2)
(7) سورة التوبة : (51)
(8) سورة التوبة : (52)
(9) سورة يوسف : (24)
(10) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ١٢ - الصفحة ٣٣٥
(11) سورة عبس : (31)
(12) سورة الاحزاب: (33)
(13) سورة المائدة : (55)
https://telegram.me/buratha
