الصفحة الإسلامية

اشارات قرآنية في كتاب مجاز القرآن للدكتور محمد حسين الصغير (ح 3)


الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في كتاب مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة للدكتور محمد حسين علي الصغير عن الكشاف للزمخرشي: أضع نموذجين لتحقيقه المجازي بين يدي البحث: الأول، تعقيبه على قوله تعالى "الرحمن على العرش أستوى" (طه 5)، فهو يبحثها بلاغيا في ضوء ما تستعمله العرب مجازا أو كناية في معنى العرش والأستواء، ويضرب لذلك الأشباه والنظائر من القرآن الكريم والموروث العربي، فيقول: (ولما كان الأستواء على العرش ، وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش ، يريدون ملك ، وإن لم يقعد على السرير البتة. وقالوا أيضاـ لشهرته في ذلك المعنى ومساواتها: ملك ، في مؤداه وإن كان أشرح وأبسط أدل على صورة الأمر، ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد أو بخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت: حتى أن من لم يبسط يده بالنوال قط، أو لم تكن له يد رأسا، قيل فيه: يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم هو جواد. ومنه قوله تعالى: "وقالت اليهود يد الله مغلولة" (المائدة 64)، أي هو بخيل "بل يداه مبسوطتان" (المائدة 64)، أي هو جواد من غير تصور يد، ولا غل، ولا بسط. والتفسير بالنغمة ، والتمحل للتثنية من ضيق العطف، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام). الثاني: تعقيبه على قوله تعالى: "فما ربحت تجارتهم" (البقرة 16)، قال: (فإن قلت: كيف أسند الخسران الى التجارة وهو لأصحابها؟ قلت: هو من الإسناد المجازي، وهو أن يسند الفعل الى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشترين فإن قلت: هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن تم مبايعة على الحقيقة؟ قلت: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تنساق كلمة مساق المجاز ثم تقفى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة، وأكثر ماءً ورونقا وهو المجاز المرشح فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء "أولئك الذين أشتروا الضلالة بالهدى" (البقرة 16)، أتبعه بما يشاكله ويواخيه، وما يكتمل ويتم بانضمامه إليه، تمثيلا لخسارهم وتصويرا لحقيقته).

وعن وقوع المجاز في القرآن يقول الدكتور الصغير رحمه الله: فقد رد عبد القاهر ( ت : 471 هـ ) القول بحمل اللفظ على ظاهره في كل من قوله تعالى: أ ـ "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله" (البقرة 210). ب ـ "وجاء ربّك" (الفجر 22). ج ـ "الرحمن على العرش استوى" (طه 5). إن ما أوّله عبد القاهر في مقارنته بين معاني هذه الآيات الظاهرة، ومعانيها الإيحائية الأخرى ، قد دلّه بالنظر العقلي الى مواطن الضرورة في القول بوقوع المجاز في القرآن، وإلا وقعنا بالتجسيد تارة، واصطدمنا بإشغال المكان بالنسبة اليه تارة أخرى، وهذا باطل من الأساس في العقيدة، كما أننا قد نقع في لبس وحيف عظيمين لو لم نقل بالمجاز، ولنسبنا الظلم لله تعالى دون دراية وبدراية بهذه النسبة المفتراة. انظر الى قوله تعالى: "ومن كان في هذه اعمى فهو في الأخرة أعمى وأضل سبيلا" (الاسراء 72) فإن حملنا هذه الآية على ظاهرها، وهو عمى العين، فيكون المعنى من كان في الحياة الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى العين، بل وأضل سبيلا. وفي هذا نسبة عين الظلم له تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فما هو ذنب من خلقه أعمى في الدنيا أن يحشره أعمى في الآخرة؟ وما هو المراد حينئذ بـ : أضل سبيلا ، فهل هذا مكافأة على عماه البصري في الدنيا، فإن حملنا هذا على الظاهر فالأعمى في الدنيا ضال عن السبيل، وهو أضل له في الآخرة ، ولا ملازمة بين العمى البصري وبين الضلال عن الدين على الاطلاق، إذن لا بد من حمل العمى على الاستعمال المجازي في الموردين ، ليناسب مع الضلال، فيستقيم المعنى القرآني، وينزه الله تعالى، فيكون المعنى الثانوي هو المراد، وهو ـ والله العالم ـ من كان في حياته الدنيا ضالا عن الحق، متعاميا عن الصراط المستقيم، زائغا عن سنن رب العالمين، مكذبا لأنبيائه ورسله، مستهزئا بتعليماته وتشريعاته، فقد كتب له الضلال في الدنيا نتيجة تصرفه وسلوكه، فهو كالأعمى الذي لا يبصر ما حوله، وأبصار الدين بين واضح ولكنه تعامى عنه، وإذا كانت هذه حالة في الدنيا، فهو في الآخرة أضل سبيلا فلا يهتدي الى نور يستنقذه ، أو الى شفيع يأخذ بيده ، فهو في ظلمات متعاقبة ، متداخلة ، كمن وهب حاسة البصر ولم يعملها ويستفد منها في تمييز المرئيات فشأنه شأن فاقدها، فهو أعمى كما كان ذلك أعمى، وأذا عمي الانسان عن السبيل الحق في الدنيا، ولم يعمل عمله، كان في الآخرة أشد حيرة وضلالا، إذ قدم على ما عمل فوجده هباءً منثورا، ولما يقدم لنفسه في حياته ما يستنير به بعد وفاته. وهذا ما يوضح مجازية الآية، وبدلالة القرآن نفسه في قوله تعالى: "ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك ءاياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (126)" (طه 124-126).

ويستمر الدكتور محمد حسين الصغير عن وقوع المجاز في القرآن قائلا معنى قوله تعالى: "ومن كان في هذه أعمى فهو في الأخرة أعمى وأضلّ سبيلا" (الاسراء 72) عدة أقوال: إن هذه إشارة الى ما تقدم ذكره من النعم ، ومعناه: أن من كان في هذه النعم، وعن هذه العبر أعمى، فهو عما غيّب عنه من أمر الآخرة أعمى. روي ذلك عن ابن عباس. 2 ـ إن هذه الإشارة الى الدنيا ومعناه: من كان في هذه الدنيا أعمى عن آيات الله ضالا عن الحق، ذاهبا عن الدين، فهو في الآخرة أشد تحيرا وذهابا عن طريق الجنة، أو عن الحجة إذا سئل، فإن من ضل عن معرفة الله في الدنيا، يكون يوم القيامة منقطع الحجة، فالأول اسم، والثاني فعل من العمى. 3 ـ إن معناها من كان في الدنيا أعمى القلب، فإنه في الآخرة أعمى العين، يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا، روي ذلك عن أبي مسلم، محمد بن بحر، قال فهذا كقوله تعالى: "ونحشره يوم القيامة أعمى" (طه 124) وعلى هذا فليس يكون قوله"فهو في الأخرة أعمى" (الاسراء 72) على سبيل المبالغة والتعجب وإن عطف عليه بقوله : "وأضلّ سبيلا" (الاسراء 72) ويكون التقدير: وهو أضل سبيلا. قال: ويجوز أن يكون أعمى: عبارة عما يلحقه من الغم المفرط، فإنه إذا لم ير إلا ما يسوء فكأنه أعمى، كما يقال: فلان سخين العين. 4 ـ وقيل معناه: من كان في الدنيا ضالا، فهو في الآخرة أضل، لأنه لا تقبل توبته، واختار هذا الرأي أبو إسحاق الزجاج: وقال تأويله أنه إذا عمي الدنيا وقد عرّفه الله الهدى، وجعل له الى التوبة وصلة، فعمي عن رشده ولم يثب فهو في الآخرة أشد عمى، وأضل سبيلا، لأنه لا يجد طريقا الى الهداية. فكل هذه المعاني كما رأيت قد اشتملت على الإرادة المجازية وهو كاف للاستدلال على أصالة الاستعمال المجازي في القرآن.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك