الصفحة الإسلامية

السيدة زينب أيقونة الخلود(رؤية وفق النص القرآني)

1910 2021-03-01

 

د. أمل محمد الأسدي ||

 

تناولنا في المقال السابق المحورين(الأول والثاني) من موضوعنا وهنا سنقدم المحورالثالث والرابع المتمثل بما يلي:

المحور الثالث: كيف ظهرت علاقةُ المرأةِ (الأم) بوَلَدِها  في النص القرآني؟{السيدةُ أمُّ النبيِّ موسی (عليه السلام) أنموذجًا}

  أ. من الصورِ  القرآنيةِ اللافتةِ التي جسَّدتْ  الأمومةَ، وبيّنت مشاعرَ الأم تجاه أبنائها نجدُها في قَصةِ أمِّ النبي موسی(ع) كما وردَ في قولهِ تعالی:(( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)) سورة القصص،الآية:٧

هنا تنتقلُ بنا الآيةُ الی زمنِ الفرعون (رمسيس الثاني) إذ كان يقتلُ كلَّ مولودٍ ذكرٍ ، بناءً علی رؤيةٍ قد رآها، تنذره بولادةِ من سينازعهُ ملكَهُ،وفي هذا الجوِّ  المشحونِ بالخوفِ والهلعِ، أوحی اللهُ تعالی الی أمِّ موسی، وألقی في قلبِها الإلهامَ بوسيلةٍ تنجي ولدَها، فخاطبها بخطابٍ قويٍّ مُعَزَّزًا  بالضماناتِ، وسنحللُ سياقَ هذه الآيةِ لنقفَ علی الضماناتِ المُقَدَّمةِ لها:

⭕ وأوحينا= أوحی +نا،  الضمير الـ (نا)  واتصاله بالفعلِ دلَّ علی مباشرةِ الجهةِ الموحيةِ وقربها من المُوحی إليه، فضلا عن فخامةِ الجهةِ الموحيةِ وعظمتها.

⭕  أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم:  أي أن باشري بأمومتكِ وأرضعيه فإذا دهمَكِ الخوفُ ألقيه في نهر النيل!!

⭕  لاتخافي، لاتحزني: لا ناهية جازمة، تخافي،تحزني:فعل مضارع مجزوم بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة ،والضمير الياء، مبني في محلِّ رفعِ فاعل.

هنا نهی اللهُ تعالی السيدةَ أمَّ موسی ، نهيًا مُسليا معينًا لها، لاتخافي عليه من الماء ولاتخافي عليه من فرعونَ وجنودهِ، ولا تحزني علی فراقه وفقده!

⭕ إنَّا رادوه إليكِ: هنا  ارتفع سقف الضمانات، فبعد التسليةِ لها وأمرِها بعدم الخوف وعدم الحزن، قال الله لها: إنّا = إنّ +نا  فـ(إن) تفيد التوكيد، وكذلك الضمير(نا) يدلُّ علی عظمة هذا الضمانِ المتأتيةِ من عظمةِ الضامن وهو(الله تعالی).

رادّوه إليكِ، وجاعلوه من المرسلين: لاحظْ عزيزي المتلقي، راد، جاعل، أسماء فاعل، واسم الفاعل  حين يردُ في سياقٍ معينٍ  يدلُّ علی الثبات والاستقرار، فلم يقلْ السياقُ مثلا: سنرده إليكِ،أو سنجعله!!

لأن الفعلَ يدلُّ علی الحركةِ والاضطرابِ، بينما الاسم يدلُّ علی الثبات  لتجرده من الزمن.

إذن: الله تعالی في هذه الآية  أوحی وبيّنَ ونهی وضَمِنَ مع التأكيدِ! لنر بعدها مدی استجابةِ السيدة أمِّ موسی ومدی قدرتِها علی مواجهةِ المشاعرِ الإنسانيةِ ومدی سيطرتِها علی مشاعرِ الأمومةِ الغريزيةِ.

ب. ننتقل الی  موطنٍ آخر مُكمِّلٍ لحكايةِ هذه الأمِّ الرؤومِ وذلك في قوله تعالی:((وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) سورة القصص، الآية ١٠

علی الرغم من الإخبار والنهي والوعد الذي قدمه الله مباشرة الی أمِّ موسی، لكنّها لم تصمدْ أمام مشاعرِها، فهذا ولدُها، مهجةُروحِها، وجسّد لنا النصُ القرآني حالها بـ :

⭕ فأصبحَ فؤادُ أمِّ موسی= أصبح هنا بمعنی صار، أي صار قلبها فارغًا بعد أن نفذتْ ما أُوحي إليها

⭕ فارغا:  خبر  أصبح منصوب، وهو اسم فاعل، يوحي بثبات حالها التي وصلت إليها، و(فارغا)  تعني خلوَّ قلبِها من كلِّ شيءٍ خلا ذكر ابنِها !!

أي بعد إيمانها الراسخ وبعد الوحيِّ والضماناتِ والاستجابةِ صار قلبُها فارغًا تماما إلاّ من همِّ فراقِ موسی، فغريزةُ الأمومةِ هزمتْ كلَّ شيء في لحظة!!

⭕ إن كادت لتبدي به: كادت أن تناديَ وتستغيثَ :يا ابناه! وتفشي السرَّ وتفصح عن  حقيقةِ الأمرِ وهو أنَّ هذا الطفلَ ابنهُا!!

⭕ لولا أن ربطنا علی قلبا لتكون من المؤمنين:

هنا احتاجت السيدة أمِّ موسی الی تثبيتٍ إلهيٍّ كي تعودَ الی العهدِ الذي عهدهُ اللهُ إليها، فتُحجمُ عن الحديثِ وإفشاء السرِّ.

لتكون من المؤمنين:  أي تحوّلتْ من حال فراغِ القلب والاستجابةِ للمشاعرِ الی حالِ الإيمانِ والحفاظِ علی العهدِ بعد أن ثبتها اللهُ تعالی.

هكذا انتصرت مشاعرُ الأمومةِ الإنسانيةِ  عند السيدةِ أمِّ موسی لولا تدخل الإرادةِ الإلهيةِ التي اقتضتِ الحفاظَ علی حياةِ النبيِّ موسی لإكمالِ دورِه الرساليِّ.

المحور الرابع: هل  الإيمانُ أقوی من المشاعرِ الإنسانيةِ؟ السيدة زينب(عليها السلام) أنموذجًا.

بيّنا في المحاورِ الثلاثةِ السابقةِ أنّ المشاعرَ الإنسانيةَ تتحكمُ بالإنسانِ وتوجهُ فِعالَه، فقد لاحظنا كيف كانتْ حالُ النبي يعقوب(ع) ولوعته علی ابنِهِ( يوسف) رغم معرفتهِ أنه حيٌّ وأنّهُ مُكَلَّفٌ برسالة!!

ولاحظنا كيف أن الإنسان يفرُّ في يومِ القيامةِ ، ومع ذلك لايتخلی عن ذويه بكُلِّهم دفعةً واحدةً، فتركهم بالتتابعِ والتدريجِ وجعلَ ولدَهُ آخرَ المُتخلی عنهم!!

ومن ثم فصلنا في حالِ السيدةِ أمِّ موسی (ع) وكيف لم تصمدْ أمامَ أمومتِها رغمَ العهدِ الإلهي!!

هنا  سنحلل موقف السيدةِ زينب بنت علي بن أبي طالب(عليهما السلام)، فقد عُلم للجميعِ أنها رافقت أخاه الإمامَ الحسينَ في رحلتهِ الإصلاحيةِ من المدينةِ الی مكةَ الی كربلاء!

⭕ لننتقل الی  المشهدِ الآتي:

المشهد :خارجي/ نهار

المكان: كربلاء/الطف

الزمن :٦١هـ

البطلة: السيدة زينب تتجول في الميدان مابين جثث الشهداء من أهل بيتها والأصحاب، تبحثُ عن أخيها، تقف عند جسد أخيها ، ابنِ بنتِ رسولِ اللهِ، إمامِ المسلمينَ، مُقَطَّعِ الأشلاءِ، مقطوعِ الرأسِ، تصمت وتطيل النظر، تضعُ يدَها تحتَ جسدهِ، ترفعه نحو السماء، تختزلُ القضيةَ بجملةٍ واحدةٍ:[ اللهم تقبل منا هذا القربان]

تعال معي أيها المتلقي الكريمُ، لنقارنَ هذا المشهد بالمشاهد السابقة،لقد اعتادت أسماعُنا علی أن السيدة زينب نصرت أخاها، ورجّحتْ كفته علی بقية أهلها جميعا، فقد اُستشهد  في الطف سبعةَ عشر رجلا هاشميا، من ضمنهم ابنا السيدة زينب!!

فإذا كان موقفُ السيدةِ موقفَ مشاعرٍ إنسانيةٍ وصلةِ رحمٍ ودمٍ ، لوجدناها  تندبُ أولادها، أو يفرغ قلبُها من الحزن والألم عليهما!!

لكنّها وقفتْ كالجبلِ الشامخِ واختزلت القضية بعبارة مكثفةٍ جدا  ومركزةٍ ، وكأنها وضعت النتيجةَ الحتميةَ لما جری!!

فضريبةُ الإصلاحِ هي التضحيةُ والتسليمُ لأمرِ الله تعالی!! ثم التسليم للوليّ وطاعتهُ!!

إذن القضيةُ ليست قضيةَ إخوةٍ ومشاعرٍ إنسانيةٍ، القضيةُ قضيةُ إيمانٍ راسخٍ وعقيدةٍ لاتتزعزع حتی بعد أن جابهها الفقدُ والقتلُ والتقطيعُ بهذه الوحشيةِ!!

القضيةُ قضيةُ استمرارِ الرسالةِ، الرسالةِ التي بُنيتْ بدماء الهواشم وبطولاتهم، فالقرابينُ متواصلةٌ، ومستمرةٌ؛ لذا رجحت كفةُ إيمان السيدةِ زينب علی مشاعرها الإنسانيةِ!!

فالمرأة ذلك الكائنُ العاطفيُّ،الضعيف بتكوينِهِ نجدُها في مواقف الفقدِ والألمِ تنهارُ تماما، وتفقدُ البوصلة، فتنكسر ويصبح خطابُها ضعيفا،مهزوما، وقد درجَ  الخطباء وأرباب المنابر علی تصوير السيدة زينب بأنها مهزومةٌ مكلومةٌ،حالها حالُ أيةِّ امرأةٍ تتعرض للفقد والكسر!!

لكنّ خطابها القويَّ يُفنِّد هذا الرأي، فالسيدة  ذات إيمانٍ راسخٍ!!

إيمانها المطلق انتصر علی الإمومة! وهزمَ الخوفَ والفراغَ  وثبّتَ العهد الإلهي، فلم تحتج السيدة زينب الی ربط إلهيٍّ يسندها ويعيدها الی ضفةِ الإيمان!! ولم تتأرجح بين ضفتينِ ولم تضعفْ ولم تخذلْها روحُها الأبيةُ، فقد وجدناها تخاطب أهلَ الكوفة خطابا قويا يهزُّ الأرواح، ويضربُ الأعماقَ، ويحي الضميرَ ، ولايمتُّ بصلة ما الی الإنكسارِ والهزيمةِ والخضوعِ ومن خطبتهاـ:

[... أَلَا سَاءَ مَا قَدَّمَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ وَسَاءَ مَا تَزِرُونَ لِيَوْمِ بَعْثِكُمُ فَتَعْساً تَعْساً وَنَكْساً نَكْساً لَقَدْ خَابَ السَّعْيُ وَتَبَّتِ الْأَيْدِي وَخَسِرَتِ الصَّفْقَةُ وَبُؤْتُمْ‏ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَضُرِبَتْ عَلَيْكُمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أَتَدْرُونَ وَيْلَكُمْ أَيَّ كَبِدٍ لِمُحَمَّدٍ (ص) فَرَثْتُمْ وَأَيَّ عَهْدٍ نَكَثْتُمْ،

وَأَيَّ كَرِيمَةٍ لَهُ أَبْرَزْتُمْ وَأَيَّ حُرْمَةٍ لَهُ هَتَكْتُمْ وَأَيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ‏ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ‏ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا،  لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا شَوْهَاءَ صَلْعَاءَ عَنْقَاءَ سَوْدَاءَ فَقْمَاءَ خَرْقَاءَ كَطِلَاعِ الْأَرْضِ أَوْ مِلْ‏ءِ السَّمَاءِ،

أَفَعَجِبْتُمْ أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ دَماً؟! وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى‏ وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ، فَلَا يَسْتَخِفَّنَّكُمُ الْمَهَلُ فَإِنَّهُ

 لَا يَحْفِزُهُ الْبِدَارُ وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ فَوْتُ النَّارِ كَلَّا إِنَّ رَبَّكَ‏ لَنَا وَلَهُمْ‏ لَبِالْمِرْصادِ...]

إن سرَّ خلود السيدة زينب علی مرِّ العصور، وتربعها كأيقونة لامثيل لها ولاشبيه، نابعٌ من إيمانِها وثباتِها وتسليمها المطلق لأمر الله.

وهنا ياأحبة، أدعو نفسي أولا وأدعو الجميع الی التخلصِ من مصيدةِ الإحباط التي اصطادونا بها!!

فمهما تقلبتْ الأحوالُ  والأمورُ تبقی المعادلةُ بيدِ اللهِ تعالی، لنكن زينبي العمل والعطاء والإباء!!

نؤمن ،نتوكل، نسلِّم، ننتصر.

وآخر دعوانا  أن الحمد لله ربِّ العالمين،والصلاة  والسلام

علی سيد المرسلين،وأهل بيته الطيبينَ الطاهرين.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك