الصفحة الإسلامية

التَّقوَى المُؤثِّرة ..!

1325 2021-02-08

 

مازن البعيجي ||

 

حينما نتكلّم عن التقوى:

نرى انَّ الفرقَ كبير جدا بين النظرية والتطبيق! وبين التَّدَيُّن الحقيقي والمُمتَهَن ، فقد لانَجِدُ أثرًا للتقوى ولاعمقًا للتديّن ، وهذا حاصلٌ ملموس عند من اتَّخذَ من الدين والتقوى واجهةً لتمرير بعض الأهداف الشخصية مستغِلًّا تقديس عوام الناس ونظرتهم لأصحاب المبادئ والقيم،مما اصبح من الصعب على مُنتَحِلي التقوى التراجع عن مثل هذا العمل لما فيه من سدِّ ثغرات النفس الامارة وتحقيق رغباتها ، والذي سرعان ما ستبدو سَوأَةَ أمثال هؤلاء أمام أنفسهم قبل غيرهم .

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)الرعد17

ولعلَّ مايُفهَم  من الدين عند الأعمّ الأغلب، هو تلك الفرائض العبادية من صومٍ وصلاة، ومسبحة كدليل ظاهري على دوام ذكر الله تعالى،  ولحيةٍ وهندام، نعم! هذا ايضا من ظواهر التديُّن والتقوى ولكن !!من اليسير جدا أن نجدَهُ مجرد ظاهرٌ للدين والتقوى ، للحدِّ الذي يجعلُ من صاحبهِ مُوقِنًا أنه من ذوي الإسلام العميق الذي ينتصر به دائما للمبدأ والشرع المصطنع ، ولو كان على حساب الكثير ومنها نفوسِنا التي غابتْ عنها الحقيقة التي حجَبَتها الأهواء وحبُّ الذات والدنيا، فلَمْ تعُد تتحمل الأذى في سبيل تطبيق الدين بعيدًا عن التصنّعِ واستعارة الشكل المزيّف والظاهر المصطنع!!

وقد توهمَّ الكثير منّا بالفهم الخاطئ عندما ظنَّ أنَّ الدين هو تلك الأدوات الظاهرية التي يُحسِنُ صناعَتِها البعض شكلاً فقط ، جاهلًا او متجاهلًا التصديق بالعمل الذي يُثبِت المضمون الباطني الذي يعبِّرُ عن المعنى العظيم للتقوى بأبعادها الواقعية المختلفة ، لذا ، ماأن واجَهَ تجربَةً في طريقِ حركة الحياة المتشعّبة والذي غالبًا مايضع القَدَر في طريقنا الكثير من الإختبارات، لترى ذلك المظهر ينقشعُ كما السحابةَ السوداء عن كبدِ السماء! وسرعان ما تظهر الحقيقة لحظة ارتكابِنا الذنب أو الخطأ  ليسقط القناع عن كل تلك العناوين القشرية التي تشير الى الهشاشة وعدم الرسوخ ، لتتَحوّل فجأة الى يقظة بعد سُبات، ليتبيَّن ذلك الدين أنه الأجوف، لأنّه بلا "تقوى مؤثرة مانعة من الانزلاق" بل دون تلك المَلَكة التي تصدُّ عنك سهام الشيطان، وتحجز وساوس النفس الأمارة بالسوء!

إذن: أيُّ دينٍ هذا في غياب التقوى!!!

 فكم من مُصلٍّ لايتورّع عن استغابة الناس ، ويخوض بأعراض الآخرين ، حتى المحصنات منهم ،متّهِمُا هذا ، وساخرًا من ذاك؟! بل ولاينجو من هذا البلاء حتى ذلك الخادم الحسينيّ الذي كل مايكتب ويردّد هو الأوْلى بالالتزام والأتباع قبلَ غيره ، لا أن يُبدي مايخالف قيمُ المنبر ، وقداسة الخدمة الحسينية لنجِدهُ يسقط في أبسط لحظاتِ أختبار يمرُّ بها قهرًا!! في الوقت الذي لو عُدنا الى معاني التقوى ، وصفات المتقين لطالَ بنا المقام وتشعّبَ المقال ، سيما وأنّ الجميع لاشكَّ أنّه قد قرأ وتأمّلَ خطبة أمير الموحّدين، وسيد المتقين عليٍّ "عليه السلام" في(صفات المتقين)وكيف يصِفُهم ، وكلامٌهُ فوق كلامِ المخلوق ودون كلام الخالق ! مما ينتهي بالمتأمّل الى نتيجةِ "حقيقة التقوى" الملازمة لدين العبد ،أنها رغم ثقلها لكنها انطوت على سعادة الدارين -فننصح بالرجوع الى تأمل تلك الخطبة-

وهكذا نرى العَجب ومما يؤسف له حقّا! أنَّ الكثير مِمّن هم إسلاميونَ في الشكل والمظهر! على مختلف الاختصاصات أكاديميين ومثقفين وحَمَلَة أقلام، بل حتى بعض ممن ينتمون الى مؤسسة دينية وقد اكتفى بأظهار التقوى في الأقوال على مستوى اللفظ ، وإتيان  الواجبات المفروضة ، وإن كانوا  مكلّفينَ بتحصيل هذا المقدار لانّهم في عداد أهل الدين ، أمّا التقوى التي من شأنها ان تُحصّن الإنسان لتكونَ له كما الدّرع الحصين الذي يقي صاحبَه من الوقوع في الشّبهات فضلًا عن الحرام ، وتجعلُه هو من يتورَّع ويخشى اقتحام مواطن الشبهات التي توحي في ظاهرها الى الحلال ، ومن هنا نفهم ما ورَدَ من الحثِّ على التقوى في روايات المعصومين "عليهم السلام" ماجاء عن الامام الصادق "عليه السلام " في تفسير مفهوم التقوى فقال:( أن لايفقِدك الله حيث أمَرَكَ، ولايراك حيث نَهَاك) وأيضا وردت في القران الكريم بصيغٍ وموارد مختلفة ولها آثار ومراتب على تفصيل قد جاء ذُكِرَ في كتب العلماء والعرفاء،

 مثلا: انّ التقوى على مراتب، أدناها الابتعاد عن المحرمات وترك الشبهات، أمّا أعلاها هي تلك المرتبة التي تجعل من صاحبها وليٌّ من أولياء الله ، ذاك الذي تجسَّدت به صفات المتقين ، فسخّر حياتَهُ لله تعالى وخِدمَة عباد الله ليُهاجرَ حيث مدارج الكمال الذي من شأنه فهمَ حقيقة إنسانيته ، ووعيَ دورهُ الحقيقي في الحياة، فرضيَ بالكفاف وتركَ مايَحِلُّ له من اللذائذ والشهوات إيمانًا أنها من فاضلِ المتاع ، فزهَدَ في الدنيا وأعرَضَ عنها ،إلا ما يسدّ به رمقَ الحياة من مأكلٍ ومَنام !! والحقّ ان التقوى احد المكاسب والغنائم التي يُوَفّقُ الإنسان لحيازتها لانها معيار التفاضل عند الله في القول والعمل والتفكير، وفي كل حركةِ الإنسان التي تنسجم مع الفطرة،وهي ماعبَّر عنها "عليه السلام" أنها (مايتَفجُّرُ من عَينِ المعرفة)

وقولُ الباري سبحانه( إنّمَا يَتَقبَّل اللهُ منَ المتَّقِين) فلو تأمّلنا ماللتقوى من أثار وتأثير وثمار على حياة الإنسان لحمِدنا الله تعالى ليل نهار على استحصال هذه النعمة سيما بعد وغول النفس في متاهات الحياة ، وآفاق الغفلة، علمًا أنني في هذا المقام ، لاأنوي السرد النظري والتفسيري لمفهوم التقوى! فما جاء في كتب العلماء والفقهاء والعارفين مايغني عن الذكر هنا ، ولكن مطلبي: هو بيان التقوى (العملية الواقعية المؤثّرة على صاحبها اولا من حيث حركته في الحياة ) على ضوء التجربة الحيّة ، لتتجلّى معاني التقوى في أدنى حركة، ابتداءًا من نبضة القلب وطرفة العين ، وانتهاءًا بتناول اليد والعمل والخدمة في المجتمع، لدرجة أن تجعلَ الإنسان أقدَر على معرفة دائه ودوائه ، في سلوكهِ وأدبيات حياته، وأبصَرْ في اختيار سبيلهِ في الحياة على جميع الصعد ، ليحرز التقوى بأنواعها الفردية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية وحتى العاطفية منها! وبذلك يحرز طهارة السبيل إلى الله تعالى من خلال الوسائل وادوات الارتقاء والسموّ ليصبح إنسانًا سويًا مطمئنًا.

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ آتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ آتَّقَوْا وَأحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) المائدة ٩٣

ومانرى اليوم من تخبّطٍ في سلوكيات اهل الدين، وخَلطٍ للأوراق ، إلّا لغياب التقوى المؤثرة ، مما يسيء الى النهج القرآني ، من خلال سوء التطبيق ، وعدم ترويض النفس الأمّارة بالسوء ، وتوجيه بوصلة الدين باتجاه الدنيا والذات ، عكس سبل الأستقامة والفضيلة،

( وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) البقرة ١٠٣

فالتقوى تختزِلُ كل فنون التطبيق العملي السويّ ، الذي يترك أثرًا في البصيرة وتوهّج العقل في التمييز بين الخير والشر والصالح والطالح، وبشكلٍ ملحوظ ينعكس على حياة وحركة الإنسان التقوائي، مما يرفعُ مقدارَه بين الناس والمجتمع أصفى جوهرًا وأطهرُ جنبًا ، وبالتقوى وحدها يرتقي صاحبها الى مصافّ الملائكة فتكون لهُ سطوةٌ وهَيْبة،  تنقادُ لهُ القلوبُ والأرواح لما فيها من تجلّي نور الاخلاص والصدق الذي عكَسَ شعاعَهُ العمل والخدمة والتفاني والعطاء المتواصل، والحضور في مساحات واسعة من بلاد المستضعفين والفقراء ، نعم!!

ومثلُ ذلك جسّدتها شخصيات عاملة تقوائية في زماننا هذا ، كما شخصية الامام الخميني- قُدِّسَت نفسه الزكية-تلك الشخصية التي أقلّ مايُقالُ فيها : أنها فتحت أبوابًا لم تكن مفتوحة من قبل! جَعلَتنا نشعرُ بحياة النبيّ والأئمة المعصومين "عليهم السلام " ونتحسّس طٌهرَ تفاصيلها، مما ترك بصماتُهُ على جميع مفردات حياتنا فغيَّرها من حيث الأفكار والعواطف والسلوك العملي المستقيم الذي ولَّدَ الإطمئنان القلبي في نفوسٍ نقية كثيرةٍ، شاء لها القدر ان تستقيم وتستريح بعد مدٍّ وجزرٍ في بحر عناءات ومشقّات وتعثرات الدنيا الدنيّة ، ومثلُ هذه المَلَكة الفضيلة، تؤسّس مشروع حقّ بمثابة رأس مال للمؤمن ورصيدُه يوم القيامة ومصداقه قول الله تعالى وهو القائل:

 { َفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّه وَرِضْوَان خَيْر أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُف هَار فَانْهَارَ بِهِ فِي نَار جَهَنَّم }التوبة 109

ويمثّلُها قول أمير المؤمنين عليه السلام (قل الحق ولو على نفسك) ، هي تقوى دافعة لنا ومؤثِرة فينا في سرنا والعلن ! أمام من يَعرفُنا ومَن  لا يعرفنا ، في بلدنا او غير بلد ، من ذات الملة او لا ،

فستبقى التقوى: هي معيار التفاضل ، والضابطة الاخلاقية، والوقاية الروحية، وهي الرفيق الذاتيّ الذي يحجزنا عن كل ما يخالف قوانين القرآن ونهج العترة المطهّرة "عليهم السلام"

وقد أثبتت لنا المرحلة إنموذجا تقوائيًا آخرًا قد أينَعتْ آثاره إشعاعات نورانية قلَبتْ معادلات سرائرَ نقيّةً كثيرة لتحوّلها الى أرواحٍ  راقية بفعل التقوى ، وقد أكّدَ واقع هذا الرجل العظيم ، ماجاء في وصف السيد الولي الخامنئي المفدى في حق الحاج قاسم سليماني قائلا: كان يطبّق الأحكام الشرعية في ساحة المعركة! لأن التطبيق أمره ليس سهلا مالم يرافقه تقوى مؤثرة تحثُ الإنسان على التطبيق ، بل وتكون حاضرة في كل مجال،  كالحكم بين المتخاصمين ، وليس هناك صراع يحتاج الى التقوى كالصراع بين النفس الأمارة بالسوء والعقل!

إنها - التقوى المؤثرة - هي حالة من النضج الديني، الذي تخطّى معهُ الإنسان الدين القشري ، بما فيه من التظاهر والرياء والعجب، وأيقنَ أن الدين : هو ذلك السلوك العملي والتطبيق الحرفي لكل ما ورد عن الله تبارك وتعالى حيث الخلاص من آفات الغفلة ، والاستخفاف بالمنكر من الأقوال والافعال والافكار وخطرات الذهن، ولن تعرِفُ النفس طعمُ الراحة في غياب التقوى حتى تعود إلى الله طالبة الصفح عما مضى ،واستشعار مراقبة المولى عزوجل، واستثمار نعمة التقوى والمحافظة عليها مكسبًا يتّصلُ في عالمِ الملكوت والجمال.

﴿ ِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ محمد: ٣٦

البصيرة ان لا تصبح سهماً بيد قاتل الحسين ومنه يسدده على دولة الفقيه ..مقال قادم نلتقي..دمتم)..

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك